مظاهر الغلو والتطرف في مجتمعنا ليست حالة طارئة، أو استثنائية، أو حتى مستحدثة لظروف ذاتية، ولكنها حالة متوارثة لأجيال تشرّبت فكراً آحادياً لم ينعتق من جموده ومستوى مفاهيمه، وتمسكت بعادات وتقاليد تلبست الدين لتعيش في تناقض مثير تجاه ظهور مجتمعي علني أكثر محافظة واتزاناً؛ ليبقى ما في النفس من هوى وتقصير في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، وفي كل تلك التفاصيل يعيش بعضنا أو كثير منّا مهزوزي الشخصية، مسلوبي الإرادة، عاطفيي التوجه والسلوك، خائفين من الوقوع في الخطأ حتى لا يتراجعوا عنه، أو يعترفوا به، رغم أن الإسلام بثوابته -التي لا نقبل أن تُمس- منح العقل البشري فسحة للتأمل في متغيرات الكون، والحياة، والرغبة في العيش والتعايش، والخروج إلى فضاءات أرحب من الحوار، وتعدد الثقافات، وإبراز سماحته ووسطيته، وتاريخه المجيد الذي سطّره الرعيل الأول من المسلمين وهم بقيمهم وأخلاقهم وسيوفهم أيضاً ينشرون الإسلام. مازلنا نكرر أن أساس الإرهاب فكر متطرف غالٍ في تصوراته وأحكامه واجتهاداته الخاصة، ونكرر أيضاً أن الإرهاب حين يتحول إلى سلوك يصعب تغييره، أو حتى التراجع عنه، ولكن لا أزال أقول إن الجانب النفسي هو من يؤثر أولاً على فكر وسلوك أي متطرف، بما يمليه هذا الجانب من عُقد، أو خوف، أو تبعية، أو اهتزاز، أو انطواء، وبالتالي ما يترجم بعد ذلك من أفكار وتفكير أو ردات فعل تحمل عنفاً وإرهاباً هي راجعة إلى تلك النفسية المريضة. لا نريد أن نقلل من جهد الدولة في محاربة الفكر الضال، والمتطرف، وهي أول من اكتوت به سلوكاً إرهابياً في أكثر من مكان، ولا نريد أن نحمّل جهات أخرى فوق طاقاتها وهي تسعى ولا تزال في مواجهة الإرهاب فكراً وسلوكاً، ومن ذلك وزارة الداخلية، والتعليم، والشؤون الإسلامية، ومركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، ولا نريد أن نزايد على أحد، أو نتهم أحداً بالتقصير؛ لأن الوقت ليس في مرحلة التقييم، وإنما في مرحلة الشراكة المجتمعية للمواجهة بدءاً من الأسرة والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام، واكتمالاً بالجهد الرسمي بمؤسساته، والقطاع الخاص بفعالياته وبرامجه.. نعم لا نريد أن نجلد ذواتنا ونحن نتألم أن من يقتل ويثير الطائفية ويلتحق بالجماعات الإرهابية في الخارج هم من بعض أبنائنا المراهقين حديثي الأسنان؛ ممن تحولوا إلى أداة رخيصة وأجيرة لتنفيذ مخطط هو أكبر منها، ومن تفكيرها؛ لصالح دول واستخبارات دولية تريد أن تنال من وطننا في أمنه واستقراره وثرواته، وتضربنا في أعز ما نملك وهم شبابنا الذين نحملهم عدة للمستقبل.. نعم لا نريد أن ننكسر أو ننهزم في مواجهتنا في الحرب على الإرهاب لمجرد إرهابي أجير من مواطنينا فجّر نفسه، وأثار العالم من حولنا، وترك فينا تساؤلات عميقة ومؤلمة ومحرجة بعضها لا يمكن أن نجيب عنها؛ لأن الوقت لم يحن بعد، ومن الحكمة الصمت والهدوء، والتفكير فيما هو أبعد وأخطر على وطننا.. نعم لا نريد أن نتوقف عن دورنا في المجتمع تجاه احتواء الشباب وتوجيههم، ولا نريد أيضاً أن نتأخر عن مسؤولياتنا تجاه الآخر في تصحيح مفاهيم ديننا العظيم بقيمه وثوابته التي شوهها شرذمة شيطانية لم تراع حرمة مكان ولا زمان، ومسؤوليتنا أيضاً تجاه وطن لن نتخلى عنه مهما كان الحاقدون، ومخططات الأعداء. نعم يا وطني لن نتخلى عنك، ولن يزايد أحد فينا على الآخر إلاّ بقدر عطائه وتضحيته لك، ومهما كانت التحديات أكبر، والآلام أشد؛ سنبقى أوفياء مخلصين، وسنبقى عاملين أكثر لمواجهة الإرهاب نفسياً أولاً ثم فكراً وسلوكاً حتى ننجح في تهيئة جيل قادر على تجاوز ما في داخله من احتقان وكراهية وإحباط وانطواء؛ لنضمن بعد ذلك رفضه لأي محاولة تجنيد لفكره حتى ولو كان المصدر قريباً منه، أو بعيداً عنه، أو وسيطاً في مواقع التواصل الاجتماعي التي نجحت في استقطاب شبابنا، وجرّهم إلى مواقع الفتن والصراع.