عندما قامت ثورة في دولة عربية بعد أخرى، خلال الخمس سنوات الماضية، رفعت شعارات عظيمة تدور حول القضاء على الفقر، وتحقيق الديمقراطية، واحترام الكرامة الإنسانية، ما كان يناسبه وصف الربيع العربي، لو كان هذا هو المغزى الحقيقي لهذه الثورات. ولكن حدث خلال هذه السنوات، ما نعرفه جميعاً من خيبة الآمال، في دولة عربية بعد أخرى، ما يجعل من الملائم جداً أن نتساءل، عما إذا كان المغزى الحقيقي لما حدث، في هذه المرة أيضاً، مختلفاً تماماً عن معنى الشعارات التي رفعتها هذه الثورات؟!. لسنا في حاجة هنا، كما أننا لم نكن في حاجة قط، إلى أي أمثلة تاريخية سابقة، للاعتقاد بوجود مؤامرة. فالبورجوازية في فرنسا لم تتآمر على الإقطاع، ولا كان الماركسيون في روسيا يتآمرون ضد الشعب الروسي، ولا كان زعماء أوروبا خلال الحربين العالميتينيتآمرون على شعوبهم، لقد كان هؤلاء جميعاً يؤمنون بما يقولون، ويصدقون الشعارات التي يرفعونها، عن الحرية والمساواة، وعن العدالة الاجتماعية، وعن حماية الوطن من الأعداء، وهكذا كان أيضاً الثوار العرب في الخمس سنوات الماضية. لكن النية شيء، والمغزى التاريخي شيء آخر. ما هي هذه الظروف إذن، وما هي العلاقات الدولية السائدة التي تكاد تحتم اتجاه هذه الثورات العربية في مسار دون آخر؟. وما الذي يجعلنا نرجح أن الذي يحدث في الدول العربية الآن هو جولة جديدة في تطور حضارة السوق، حيث تقوم هذه الحضارة (أو هذا النظام)، بضم أراضٍ جديدة إلى ما سبق لها ضمه؟. إنني أبدأ بالاعتراف بأني أنطلق من وجهة نظر محددة (قد لا يتفق معها القارئ)، وهى إعطاء الأولوية في تحديد مسار الأحداث التاريخية الكبيرة، للتطور التكنولوجي، وليس للأفكار أو الآمال والطموحات. قد يبدو هذا الترتيب مؤسفاً (وهو في نظري كذلك)، ولكني لا أجد حيلة لإنكاره، الإنسان للأسف تحكمه الحاجات المادية المباشرة، أكثر مما تحكمه العواطف والأفكار النبيلة، بل إن العواطف والأفكار تتكيف مع الوقت مع هذه الحاجات المادية، أكثر مما يحدث العكس. ونظام السوق هو النظام الذي يسمح أكثر من غيره، بانطلاق التطور التكنولوجي ليعبر البحار والمحيطات، وليهدم قوى السدود، وليتجاوز أشد الحواجز مناعة. حدث هذا طوال الخمسمئة عام الماضية، منذ بدأ الأوروبيون في استعمار العالم الجديد، وفى انتشار الثورة الصناعية من بلد لآخر في أوروبا وأميركا، ثم في الدول الاشتراكية نفسها، غزت حضارة السوق، حضارات كثيرة. قد يقال: وهل كان النظام السائد في البلاد العربية قبل هذه الثورات مختلفاً عن نظام السوق، قد يكون من الممكن وصف ذلك النظام بهذا الوصف، ولكنه كان من نوع رث أو متخلف، وهناك من القوى الخارجية والداخلية، من يرغب في تطويره وتحديثه، كان النظام السائد أقرب إلى ما يعرف بنظام المحاسيب، حيث تغلب العلاقات الشخصية أو الشللية مع أصحاب النفوذ، على العلاقات القائمة على حساب الربح والخسارة وتعظيم الأرباح. قد يرجح صحة هذه النظرة، ما نلاحظه من أن البلاد العربية التي لم تشهد خلال هذه السنوات، ثورة أو انتفاضة أو تطورات من النوع الذي أطلق عليه وصف الربيع العربي، هي بلاد لا تحتاج حضارة السوق لغزوها في الوقت الحاضر. قد تحتاج هذه البلاد حقاً إلى ديمقراطية أكثر، أو إلى عدالة اجتماعية أكثر، ولكنها (ويا للغرابة)، لم تشهد ربيعاً عربياً، مثلما شهدت غيرها. قد يرجح صحة هذه النظرة أيضاً، ما نراه في بعض البلاد العربية، التي شهدت مثل هذه الثورات، من سير حثيث نحو المزيد من الخصخصة وتحرير الاقتصاد من تدخل الدولة، حتى بالمقارنة بما كان سائداً من قبل. إن الكلام يتردد بين الحين والآخر، بأن ما يحدث الآن في البلاد العربية يذكر بما وصفته وزيرة سابقة للخارجية الأميركية بالفوضى الخلاقة. كما تردد بين الحين والآخر، الإشارة إلى أن العالم العربي يشهد الآن تكراراً لما حدث في أعقاب الحرب العالمية الأولى، من تجزئة وتقسيم وتوزيع جديد لمناطق النفوذ، طبقاً لاتفاقية سايكس بيكو. ولكن القول بالفوضى الخلاقة، وإن كان يشير بحث إلى ما تعيشه البلاد العربية اليوم من فوضى، فإنه لا يدلنا بالضبط عما هي تلك الثمار البديعة التي ستقوم هذه الفوضى بخلقها في النهاية. ثم هل التشخيص الحقيقي لهذا كله، هو كسب موطئ قدم جديد لحضارة السوق؟.