في الكثير من أدبيات حزب «العمال الكردستاني»، وعلى لسان العديد من قادته ومسؤوليه، ومنهم زعيمه عبدالله اوجلان، أثناء التطرّق إلى تاريخ الحزب الذي تأسس في 1978، فإنهم يؤكدون أن الفكرة الأولى وراءه هي «كردستان مستعمرة، ويجب تحريرها». وشعار جريدة الحزب الرسميّة «سرخبون» (الاستقلال) هو: «لا يوجد شيء أكثر شرفاً وكرامة من الاستقلال والحريّة». هذا الجنوح القومي للانفصال، كان مدغوماً بجنوح يساري يقضي بأن تكون دولة كردستان الكبرى المستقلّة الحرّة، اشتراكيّة النظام. وقتذاك، كانت الحركة التحرريّة الكرديّة تميل نحو الاعتدال في الشعارات والمطالب، بعد فشل تجربة «جمهورية كردستان في مهاباد» سنة 1946، بقيادة قاضي محمد، والتي لم تدم أكثر من 11 شهراً، بعد توقّف ستالين عن دعمها، ما أدى إلى إعدام قاضي محمد ورفاقه في الساحة نفسها التي أعلن فيها جمهوريّته. وهناك، مضافاً إلى ذلك، فشل الثورة الكردية بقيادة الملا مصطفى بارزاني سنة 1975، بعد اتفاق الجزائر بين طهران وبغداد، وتوقف شاه إيران عن تقديم الدعم لبارزاني. والأصل في اتفاق الجزائر، كان تخلّي واشنطن عن دعم بارزاني، فصار سقف مطالب الحركة التحررية الكردية الحكم الذاتي لكردستان والديموقراطيّة للعراق وإيران. وبينما لم تطالب بالحكم الذاتي الحركة الكرديّة في سورية، نظر «العمال الكردستاني» إلى مجمل أطراف الحركة الكرديّة التي لا تطالب بالاستقلال - الانفصال، بعين التخوين واتهمها بالعمالة للأنظمة التي تستعمر كردستان، وبأنها تنظيمات «كمبرادوريّة»، «إصلاحيّة»، «كرتونيّة» و»قوميّة بدائيّة». أما البديل القومي الثوري عنها فهو «العمال الكردستاني». وعليه، وقياساً بالسائد السياسي الكردي، ظهر «العمال الكردستاني»، غير عابئ بالنقد، وشديد العناد والتطرف في طروحاته وشعاراته. وهذا دفعه إلى صدامات مسلّحة مع التنظيمات الكرديّة التركيّة الموالية لقيادة كردستان العراق نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، وقد راح ضحيّتها العشرات، قبل أن يبدأ «الكردستاني» صراعه المسلّح ضدّ تركيا. هكذا كان الخطاب السياسي - المطلبي الكردي يشهد تراجعاً لجهة التخلّي عن الانفصال، وتبنّي الحكم الذاتي، والعيش ضمن دولة وطنيّة ديموقراطيّة، فيما كان أوجلان وحزبه يتبنيان شعارات قوميّة كبرى تزجّ كرد تركيا وسورية والعراق وايران في حرب ضروس ضد تركيا، والفاتورة كانت سقوط عشرات الآلاف من المقاتلين والمقاتلات الكرد شهداء، إلى جانب تدمير وإحراق آلاف القرى الكردية وتهجير سكّانها من قبل الجيش التركي. وفي هذا السياق كال أوجلان انتقادات حادة لمؤسس الجمهوريّة التركيّة مصطفى كمال (أتاتورك) إلى جانب انتقاداته الشديدة بين مطلع الثمانينات ومنتصف التسعينات، لكل حركات اليسار التركي والشرق أوسطي والعالمي بوصفها مزيّفة ومنحرفة، مشدداً على أن «العمال الكردستاني» صفوة اليسار ومنقذ الفكر الاشتراكي من الزلل حتّى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته!. ووسط خراب وبؤس وتشقق الحركة الكرديّة في كل أجزاء كردستان، كان لهذه الشعارات القوميّة والثوريّة اليساريّة وإرفاقها بالقتال وبذل الدماء، بريق وسحر جذبا مئات الألوف من الكرد. وصارت هذه الكتلة البشريّة الهائلة، كالعجينة في يد الحزب. ومن المؤسف القول إن الكردستاني لم يشذّ في تعامله مع المجتمع الكردي عن عادات وتقاليد التنظيمات العقائديّة في اغتيال العقل والتنوّع بهدف التنميط والقولبة. ذلك أن نموذجاً كهذا من التنظيمات العقائديّة الدينيّة أو الدنيويّة، ينظر إلى المجتمعات والبشر على تنوّعهم واختلافهم، على أنهم في ضلال وينبغي تطهيرهم وهدايتهم، أو أنهم ساقطون تحت تأثير سموم وموروث الرأسماليّة والامبرياليّة، ومن الواجب تطهيرهم، وإعادة هندسة المجتمع بما ينسجم والمشروع الكوني للحزب. بذلك تصبح الجماهير مجرّد حشود وأرقام، ينبغي استعبادها، بحجّة تحريرها. بعد اختطاف واعتقال اوجلان، سنة 1999، تغيّرت المنظومة القيميّة للحزب رأساً على عقب، فحلّ التطرّف في شيطنة الدولة القوميّة محلّ التطرّف في تقديسها، كون «الكردستاني» تأسس على مبدأ وشعار استقلال كردستان. وفيما باتت تلوح في الأفق فرص إقامة دولة كرديّة، أصبح «الكردستاني» وزعيمه يريان الدولة القوميّة كشيء متخلّف ونتاج للرأسمالية والامبرياليّة العالميّة، وجالب للويلات على البشر. بل صارا يطالبان الدول الاوروبيّة بالتخلّي عن أنظمتها القوميّة، وتبنّي ما يطرحه أوجلان من نظم لإدارة للدولة والمجتمع!. وصار التطرّف ضمن الخطاب السياسي والإعلامي للحزب واستطالاته في سورية والعراق وايران، يؤكد ويرسّخ أفكار أوجلان الكارهة للدولة القوميّة بين أبناء الشعب الكردي، عبر طرح الانموذج الاوجلاني لحلّ القضيّة الكرديّة، والتي يسموّنها «الإدارة الذاتيّة الديموقراطيّة»، على أنه الحلّ الناجع والأفضل للقضايا القوميّة في الشرق الأوسط والعالم!، بما يشبه طرح الإخوان المسلمين شعارهم «الإسلام هو الحل»!. وهذه «الإدارة الذاتية الديموقراطيّة» شكل من الإدارة المحليّة، أو نظام البلديات، ذات الصلاحيات الواسعة، ولا تصل إلى مستوى الحكم الذاتي. وهو معروف ومستخدم في الكثير من بلدان العالم، ولكن، على رغم ذلك، يعتبره «الكردستاني» من إبداعات وبنات أفكار أوجلان حيث لا يجرؤ أحد من محازبيه على طرح تساؤل من طينة: طالما اسقط «الكردستاني» مبدأ ومبرر تأسيسه «استقلال كردستان»، وصار يحارب الدولة القوميّة ويشيطنها، فما مبرر وجود الحزب، فضلاً عن انعدام سبب استمرار حمله السلاح؟!. مختصر الكلام أنه منذ تأسيسه ولغاية اعتقال زعيمه، عاش «الكردستاني» تطرّفاً قوميّاً ويساريّاً، في مواجهة كل النداءات والمناشدات والانتقادات الكرديّة المطالبة بالعدول عن ذلك، في وقت كانت الطروحات والشعارات القوميّة تشهد تراجعاً، والشعارات والطروحات اليساريّة في أوج تراجعها إن لم نقل انهيارها. وبعد اختطاف أوجلان، دخل «الكردستاني» وزعيمه مرحلة التنازلات وخفض سقف المطالب، بحجة المراجعات النقديّة، والسير نحو الاعتدال، وتبنّي دولة المواطنة الحرّة، بما يمكن وصفه بالتطرّف في الانقلاب على الذات، وفرض الميوعة السياسيّة اللاقوميّة، وطرح أفكار ومشاريع طوباويّة كـ «الأمة الديموقراطيّة» و»الحضارة الديموقراطيّة»، والمزايدة حتّى على الديموقراطيّات الغربيّة التي بلغت مرحلة الإشباع تقريباً. اللافت انه في حالتي التطرّف، القومي - اليساري، والليبرالي - اليساري، كان وما زال الشعب الكردي هو الوقود، وهو مختبر تجارب أفكار وطروحات ومشاريع أوجلان وحزبه، ودافع ضرائب وفواتير هذه المشاريع. أما الحزب فصار أكثر تطرّفاً وعصبيّة وسطوة وتسلّطاً، فيما المفترض أن تسير الأمور عكس ذلك!