في عام 1972 كنت أبحث عن قبول لتحضير الدكتوراه في جامعة أميركية، بعد أن حصلت على الماجستير. وكنت قد عرفت أن الأمير سعود الفيصل درس وتخرج في تخصص علم الاقتصاد في جامعة برنستون المميزة. ذهبت إلى مبنى وزارة البترول القديم، ورأيت عند الباب سيارة إيطالية صغيرة من طراز «فيات»، أعرف من ذي قبل أنها سيارة الأمير سعود الذي سبق أن رأيته وهو يقودها في طريقه إلى مبنى وزارة البترول التي كان وكيلها. ذهبت إلى من يبدو أنه سكرتير أو مدير مكتب وقلت له: أريد أن أقابل الأمير سعود. فأشار إلى الباب من دون أن يقوم من مكانه الذي كان جالساً فيه. فدخلت وإذا به يتحدث في التليفون الذي كان خلفه ووجهه إلى الجدار. ولما انتهى من المكالمة التفت فوجدني أمامه وتحدثت معه للمساعدة في الحصول على قبول. ثم غادرت مكتبه شاكراً وأنا معجب أشد الإعجاب برقي لغته وهدوئه ولطفه وتواضعه. مرت 22 سنة، قبل أن أجد فرصة أخرى للحديث معه إلا في عام 1995، بعد تعييني عضواً في مجلس الوزراء. فعرفت عنه الكثير الذي سأورد شيئاً منه في هذه المقالة مقتبساً شيئاً مما ورد في مقالة نُشرت في هذا الحيز في 10-4-2007، بعنوان: «الشكر لمن يستحق الشكر». والحديث هنا ليس عن الأشياء المعروفة عن طول مدة تجربة الأمير سعود الفيصل، في الشؤون الخارجية ولا عن حنكته السياسية ولا عن قدراته الديبلوماسية في مواجهة أسئلة وسائل الإعلام، ولا سيما في مواجهة أسئلة الصحافيين الكبار المتقنة وتحت أضواء الكاميرات الحارقة والميكروفونات التي لا ترحم زلة لسان، مهما كانت غير مقصودة. إن الله وهب الأمير سعود الفيصل قوة احتمال نادرة، وصبراً على المتاعب الجسدية والنفسية مقرونة بمواهب استثنائية، كسرعة البديهة وخفة الظل، فلا تفارقه روح الدعابة وزرع النكتة العفوية بين ثنايا المناقشات الجادة وغير الجادة. فقبل بضع عشرة سنة كان بعض الوزراء يؤدون الصلاة من على الكراسي، وكان أحد الكراسي صغيراً جداً، فسألني الأمير سعود، وهو يعرف الجواب سلفاً، من سيجلس في وكر «الطير»؟ فمن أين أتى الأمير سعود بـ «وكر» كوكر الصقر، كنايةً عن صغر الكرسي؟ وأذكر أن المرحوم الصديق مأمون كردي، وكان مساعداً لوزير الخارجية، وكان رجلاً قديراً، ملماً بجوهر علم الاقتصاد، يقول: «إن الأمير سعود أفضل اقتصادي تعاملت معه». وقد قلت لمأمون، رحمه الله، أن الأمير سعود قادر على شيء لا يقدر عليه إلا الوقداني والشريف بركات، وأحمد شوقي وأبو القاسم الشابي وأحد أساتذة الأدب الإنكليزي في كامبريدج مجتمعين في شخص واحد. فتساءل رحمه الله: كيف يجتمع كل هؤلاء في شخص واحد في الوقت ذاته؟ والسبب بإيجاز أن الأمير سعود يستطيع أن يستشهد بأبيات من شعر تركي بن حميد، أو نمر بن عدوان، أو راكان بن حثلين، أو ابن هذال، أو القاضي، أو ابن لعبون، وبأبيات من شعر امرؤ القيس أو أبو فراس الحمداني، أو أبو تمام، وأبيات لا حصر لها من شعر شكسبير أكبر الشعراء الناطقين بالإنكليزية. وهناك فرق شاسع بين مجرد إجادة لغة أجنبية قولاً وكتابة وبين القدرة على حفظ شعر أكبر شعرائها. هذه مرحلة متقدمة من الإمساك بناصية اللغة. ويظهر للمراقب أن الصحف أحياناً تجد حرجاً في الإشادة بمسؤول حتى لو كان يستحقها. ولا حتى الإشادة بمواطن من عامة الناس، يستحق الشكر، وليس له علاقة بالأعمال الحكومية الرسمية. والحمد لله والشكر له على أن الكثيرين من أبناء وطننا يستحقون الشكر من مسؤولين وغير مسؤولين، وأطباء، ومهندسين، ورجال أعمال، ومن مواطنين كثيرين، مهنيين، وغير مهنيين، يأتي في مقدمهم رجال الأمن. شكر الله مسعاهم وبيَّض الله وجوهم ورحم من استشهد منهم. إن الشكر في محله، الذي لا يشوبه استجلاب مصلحة ذاتية، واجب لا ينبغي التردد في إعلانه. اللهم ألبس الأمير سعود الفيصل الصحة، وأدم عليه توفيقه، وأجزه خير الجزاء، على ما قدمه لوطنه وأمته، من أعمال مشهودة ومعروفة، وأخرى غير معروفة، بإتقان وجدارة وإخلاص. * أكاديمي سعودي