نيويورك: روبرتا سميث قد يجيد البشر صنع الأشياء، لكن تدميرها أيضا من الأمور التي يتميزون بها. وبفضل تلك المهارة في التدمير حظي تاريخ الفن بالكثير من الألغاز المثيرة، وبآثار لثقافات إنجازاتها لا تخطئها عين لكنها متشرذمة، محدودة بسبب الخسائر الكبرى الناجمة عن الحوادث، أو الإهمال، أو الحروب. ويتم استعراض أحد تلك الألغاز في معرض «سلاطين ديكن في الهند من 1500 إلى 1700: الفخامة والخيال». ويقام هذا المعرض المتميز في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك. ويعد هذا العرض الرائع الذي يمس القلب هو الأكثر شمولا الذي يركز على العائلات المالكة المسلمة التي حكمت هضبة ديكن الواقعة جنوب وسط الهند لما يقرب من قرنين، ورسخت عصرًا ذهبيًا مضطربا. وتضم المجموعة أكثر من 200 قطعة فنية من نماذج استثنائية لأعمال معدنية، ونسيج، وخطوط، وحلي، وأحجار منحوتة، والأهم من ذلك نحو 70 أو ما يمثل ثلث المعروضات من المنمنمات، التي تعود إلى تلك الحقبة في ديكن، ومن بينها قطع متميزة إلى أقصى حد. ويزخر المعرض بأعمال نادرة من مجموعات من أوروبا، والهند، التي نادرًا ما تجتمع معا خاصة في نيويورك وتشمل عدة اكتشافات جديدة. ومن أبرز تلك القطع «لوحة شخصية لحاكم أو موسيقي» (1630 تقريبا)، التي تصور رجلا ذا بشرة سوداء يرتدي ملابس أنيقة على وجهه تعبيرات نبيلة وقلقة، ويداه تبدوان مليئتين بتجاعيد التقدم في السن. ويجلس الرجل على سجادة مرسومة عليها خطوط متوازية على خلفية باللون الأزرق الداكن تمثل مساحة تبدو مثل سماء تمتلئ بها الغيوم أثناء الليل، أو تلال، أو خيمة. ويتناغم هذا مع الستارة السميكة منثنية الطرف، والمربوطة بحافة اللوحة، في إطار خشبي أو إطار من مكان غامض. وقامت كل من نافينا نجاة حيدر، أمينة الفن الإسلامي في «متروبوليتان»، وماريكا ساردر، مساعدة أمين متحف سان دييغو للفنون، بتنظيم المعرض، ووظفتا بشكل جيد الديكور، الذي تذكرنا فيه ألوان الجدران القوية المميزة فيه، وهي لون السلمون، والبنفسجي الداكن، والأفوكادو، والكستنائي، بفخامة البلاط الملكي. الكنوز الصغيرة الزاخرة بالتفاصيل الدقيقة قد تثير في النفس القلق في بادئ الأمر، لكن إذا أمسكت بالعدسة المكبرة المتوفرة، وانغمست في تلك التفاصيل، فسوف تواتيك الشجاعة، وسيكون التركيز مثمرًا. وتم وضع اللوحات الكثيرة المعروضة ضمن مجموعات صغيرة على جدران مدعمة بقطعتين تمنعان سقوط اللوحات، ومتجهة قليلا نحو الداخل، مما يشيع جوا من الراحة والحميمية يعززها إصرار القائمين على المعرض على عرض بعض الأعمال بطريقة جديدة مذهلة. وقد تخلوا في عدة حالات عن الطرق التقليدية في العرض من خلال استخدام مفارش ذات ألوان زاهية من الحرير، بدلا من المفارش البيضاء الصحية، بل وتم التخلي عن تلك المفارش تمامًا مما كشف عن حدود نادرًا ما ترى مثل صفوف من الزهور الحمراء الصغيرة المرسومة في لوحة تحيط برسم واقعي رائع لفيل. ووافق الأشخاص والهيئات المالكة لتلك الأعمال، في حالات قليلة، على السماح بعرض الأعمال في إطارات أوروبية قديمة مطلية باللون الذهبي من مجموعة «متروبوليتان» من بينها لوحة «صورة شخصية لحاكم أو موسيقي» التي تم تخصيص أحد المفارش الحريرية لها. ويخلق كل هذا تشابكا بصريا وثقافيا مؤثرًا. كانت ديكن مثار مطامع، حيث كانت تشغل موقعا على طرق التجارة بين الشرق والغرب، وغنية بالموارد الطبيعية، والمنتجات الرائعة، لذا كانت مقصد الناس من الشرق الأوسط، وأوروبا، مما جعلها بوتقة تنصهر بها مختلف الثقافات، إن لم تكن بوتقة سياسية أيضًا. وبدأ العصر الذهبي لتلك المنطقة في نهاية حقبة الإمبراطورية البهمنية، التي انفصلت عن إمبراطورية المغول في الشمال عام 1347، وحكمت منطقة ديكن بالكامل وتراجع نفوذها تدريجيا إلى أن انتهى عام 1538 تقريبا. آنذاك تمرد حكام الولايات البهمنية الخمسة ونصبوا أنفسهم سلاطين على ممالك منفصلة، كانت أكبرها أحمدنجار، وبيجابور، وغولكوندا، وأصغرها بيدار، وبيرار. على مدى أكثر من 150 عاما، أخذ السلاطين وخلفاؤهم يشيدون القصور، والمدن، والورش، ويتواصلون مع الفنانين، والكتاب، والمؤلفين الموسيقيين، خاصة من بلاد فارس وتركيا، وأفريقيا، التي كانت تمثل مراكز للإبداع الإسلامي. وأثمرت محاولاتهم أسلوبا فريدا في التصوير يجمع بين الأسلوب الهندي والإسلامي، وظلت ديكن لفترة من الزمن هي التي تحدد معايير الشعر الفارسي، ومركزا مهما للأدب العربي، والتأليف الأدبي. مع ذلك تراجع نفوذ وقوة الممالك من بعد قوة في مواجهة تحديات من الشمال والجنوب، وخاضوا حروبا بعضهم ضد بعض وكانت تنجح إحداها في ضم الأخرى أحيانا. وغني عن القول، أن مثل تلك الأحداث كان لها تأثير كبير على الثقافة كما يتضح في صور أنطونيو مارتينيلي للقصور المتهدمة. وضمت إمبراطورية المغول آخر السلطنات في ديكن في عام 1687. لجذب انتباهنا إلى الأشياء الصغيرة والجميلة، يبدأ المعرض بعرض سريع جميل للماس، الذي كانت ديكن المصدر الأساسي له في العالم خلال تلك الفترة، حيث كان يتميز بحجمه ولونه. ومن أبرز قطع الماس من حيث الحجم والنقاء قطعة «شاه جيهان»، والقطعة ذات الشكل المتميز ومتعددة الألوان التي تعرف باسم «عين المعبود». ومن تلك النقطة يبدأ عرض الأعمال بحسب المملكة فضلا عن مجموعات وأعمال فردية تأخذ بالألباب. أما في قاعة بيجابور، حيث تتصدر اللوحات المرسومة ولوحات الخطوط، المشهد، فلا ينبغي أن تفوتك مشاهدة الصور الست الصغيرة المرسومة بتقنية ألوان الكرات الزجاجية الصغيرة التي تشتهر بها تلك المنطقة. وتوضح تلك الأعمال الاستخدامات المتعددة لتلك التقنية، وتصل إلى ذروتها من خلال تصوير امرأة مكتنزة ترتدي عباءة ملونة بتلك التقنية في وضع الجلوس، وربما إلى جانب جدول مائي مرسوم بتلك التقنية أيضًا. مع ذلك يظل النموذج المثالي المعبر عن تلك التقنية هو لوحة «الصقر الملكي الصائد» من متحف غيميت في باريس. الإطار الكبير، الذي يظهر للمرة الأولى هنا، ويستخدم مجموعتين من الألوان الناعمة التي تشبه ألوان الكرات الزجاجية الصغيرة بالتبادل مع واحدة تبدو مثل الغرانيت المصقول. ويتم تمثيل مملكة بيدار الصغيرة بـ15 نموذجا لأعمال معدنية رفيعة المستوى كانت من بين أفخر الأدوات الفخمة، ومن بينها قالب أوان مصنوع من سبيكة سوداء مزدانة بأشكال نباتات، وأشكال هندسية، ومحشوة بالنحاس الأصفر. وهناك إبريق يحمل رسوما لعناقيد عنب بالفضة، بينما يغلب على الإبريق الذي بجانبه اللون الأسود. ويستمر تقلب نسب التضاد في المعادن ضمن مجموعة من الصواني، وقواعد الأراجيل التي تشبه المزهرية، وكذا في معالجة المياه والنباتات المزهرة، والخطوط الأفقية، والعمارة. وتعد واجهات العرض من أكثر الأشياء المميزة في المعرض. وتم تخصيص أكبر قاعة إلى منتجات سلطنة غولكوندا، التي تشتهر بمناجم الماس. ويبدأ العرض بعدد من اللوحات المصنوعة من القطن المقاوم للصبغة يطلق عليها «كلامكاري»، التي تمزج بين الأشكال الفارسية، والهندية، والأوروبية، وتتضمن رسوما لسيدات، أو رجال يجلسون بأريحية في الحدائق، ولحقول، ولحيوانات. وهناك أيضا أعمال معدنية أخرى لكنها عبارة عن آنية مصنوعة من النحاس، والبرونز، وعليها نقوش بارزة من آيات قرآنية أو أشعار. ويلاحظ وجود إناء مستدير الشكل يعتقد أنه كان يستخدم لجمع المال في الأضرحة الصوفية، ويناسب حجم اليد. ويكشف هذا النهج عن نفسه كذلك في قطعة ملكية مصنوعة من النحاس المجوف المطلي على شكل صقر. وهناك أعمال أخرى متفرقة تشمل حُلِيّا من النحاس المطلي يزين مقعدا، اكتشفت مؤخرًا، وسجادة صلاة لستة أفراد، ذات تصميمات، وأشكال تحدد مساحة لكل مصلٍّ. من أسباب ما شهدته ديكن من اضطرابات، كما يشير عنوان المعرض، اهتمام السلاطين بالثقافة، ووقت الفراغ، أكثر من اهتمامهم بشؤون الحكم. وإذا كان الأمر كذلك، فلا تظهر الجوانب العملية لديكن بوضوح إلا من خلال الألوان المكثفة القوية، والأجواء الحالمة، والأشكال العصية على التفسير، والتي تظهر في الكثير من تلك اللوحات. أسفل إحدى تلك اللوحات، التي قد تكون من أحمدنجار، نرى امرأة ترش المياه على حبيبها، وهناك أشكال أميبية حمراء يمكن رؤيتها الآن كأشكال مكبرة لميكروبات مصدرها النهر الذي تقف بجانبه. وهناك لوحة قريبة تصور بها ثلاث نساء في حديقة بها تقدم نسخة أكثر انغلاقا للشكل نفسه. وربما نجد أكبر ملمح من ملامح الابتعاد عن الواقع في السماء ذات الألوان الزهرية والبيضاء، ولون اللافندر، في مشهد صيد في بيجابور، الذي يعد من أبرز الأعمال المعروضة. مما لا شك فيه أن الفنان، بوحي من تقنية الرسم بألوان الكرات الزجاجية الصغيرة، قد عبر عن قوة الطبيعة الهائلة، الرقيقة في الوقت ذاته، وهيمنتها على حركات أميرين على حصانين في وضعية مرسومة بدقة شديدة. وعند مشاهدة السحاب المرسوم باستخدام عدسة مكبرة يستطيع أن يتصور المرء الطريقة، التي تم رسمها بها، لكن العالم الذي يشبه السراب، هذا العالم الخيالي المذهل، الذي تنتمي إليه تلك اللوحات، يظل من الألغاز الكثيرة التي يضمها هذا المعرض. إنه عالم جدير بالتقدير، والاستكشاف لا الحزن عليه. ويستمر المعرض حتى 26 يوليو (تموز) في متحف «متروبوليتان» للفنون في نيويورك. * خدمة «نيويورك تايمز»