لطالما ادعى الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح أن حكم اليمن يشبه الرقص على رؤوس الأفاعي، في إشارتين مقصودتين؛ الأولى ضمنية للإشادة بقدراته غير العادية في إدارة الحكم، وأخرى علنية، القصد منها إخافة الآخرين، جيران أو غربيين من خطر "القاعدة" والحوثيين. إلا أن الأحداث والفرص التي أعطيت له، من أجل اليمن وشعبه، كانت كفيلة بأن تثبت أن صالح هو رأس الأفعى وذيلها في الوقت ذاته، بحسب الظرف والمصلحة. ذيل الأفعى الفرصة الأغلى التي لم يقنع بها صالح تمثلت في إقرار الانتقال السلمي الذي شهده اليمن إثر استقالته وانتخاب الرئيس هادي عام 2012 تتويجا لإنجاز دبلوماسي سعودي ـ خليجي أثنى عليه كثير من الجهات العربية والغربية حينها. إذ تم بموجبه منح صالح وعائلته، حصانة من الملاحقة القضائية. كما حث الاتفاق على قيام "مؤتمر الحوار الوطني" لمناقشة الإصلاحات الدستورية والحكومية، ما أسفر عنه تشكيل حكومة وطنية جديدة تضم ممثلين من كافة الأحزاب السياسية، إضافة إلى إشراف المؤتمر على إصلاح الجيش الوطني. ولكن يبدو أن هذه الخطوات الإصلاحية ووتيرتها المتصاعدة لم ترق لصالح الذي أطبق على اليمن لسنوات، بحجة الإرهاب بينما هو في الحقيقة يراكم الثروات الخاصة ويقايض الأعداء من الخارج على ثروات البلد وخيراته. فما كان منه إلا أن ارتضى لنفسه أن يكون ذيلا وتابعا لإحدى الأفاعي التي كان يتغنى بقدرته على مراقصتها، ما جعله يتحالف مع جماعة الحوثي؛ الوجه الآخر لـ "القاعدة" في اليمن، اللتان باتتا بالنسبة لكثير من اليمنيين، وجهين لعملة إرهابية واحدة، وإن تفاوتت الأهداف والكيفيات، من حيث سبل الدعم وجهاتها. وسيط الإرهاب وبينما الإرهاب الحوثي ترعاه إيران، يبقى الإرهاب القاعدي موزعا يدعمه كثير من الجهات ذات المصلحة، من وقت لآخر، بما فيها الرئيس المخلوع ذاته، وهنا يظهر جليا دور صالح كداعم لوجستي مهم كان يرقى لمستوى "الوسيط" في كثير من الأوقات التي تطلبت تدخلا مباشرا للتعاطي مع "القاعدة" من قبل جهات غربية استخباراتية، حيث إن أسلوب الرقص مع الأفاعي لم يكن ذا جدوى لخدمة اليمن بقدر ما كان ذا جدوى حقيقية لإطالة أمد حكم صالح لليمن. وفي السياق ذاته، فإن كثيرا من التقارير يشير إلى أن التعاطي اليوم مع المتمردين الحوثيين ومرجعياتهم في إيران يتم أيضا عن طريق ذات "الوسيط" الذي كان يحمل أعلى صفة في البلد. فرغم ارتباط الإيرانيين طائفيا مع الحوثيين إلا أن المسؤول الأساسي عن المسيرة المظفرة للحوثيين، بحسب تقرير مجلة دير شبيجل الألمانية، داخل البلاد، هو الرئيس السابق صالح، وهذا الانقلاب في المواقف يمثّل مفارقة ساخرة، بالنظر إلى أن صالح ذاته حين كان في السلطة شن حملة ضد المتمردين الحوثيين وقتل زعيمهم السابق، والآن يقوم بوضع قوات النخبة المنشقة من الجيش – التي جهزها عبر مئات ملايين الدولارات القادمة كمساعدات من الولايات المتحدة – تحت تصرفهم، وهذه القوات هي أقرب إلى جيش خاص منها إلى قوات عسكرية نظامية، وفقا لذات التقرير، حيث يستخدم صالح ثروته المقدرة بمليارات لتمويلهم واكتساب ولائهم. تظاهرة سابقة في العاصمة صنعاء تطالب بإخراج الميليشيات الحوثية. إلى ذلك، فإن هذا "الجيش الخاص" بصالح الممول بمساعدات أمريكية وُجهت من أجل القضاء على القاعدة، هو اليوم رهن إشارة جماعة إرهابية أخرى هي جماعة الحوثي المدعومة أساسا من إيران. ليتضاعف حجم الدعم والتمكين لهذه المجموعة بينما يتضاعف حجم التهديد الإرهابي داخليا وخارجيا بحصول مثل هذه الجماعات على هذا القدر من السلاح. فشل أمريكي وفي مقابل المبادرة الخليجية التي أنجزت الكثير على مستوى القوة الناعمة دبلوماسيا فإن عديدا من نقاط الضعف شابت الاستراتيجية الأمريكية الشاملة في اليمن، ما أسهم في إضعاف المبادرة وتقويضها آخر الأمر، باعتراف دانيال جرين، الباحث في الشؤون الدفاعية في معهد واشنطن والضابط العسكري السابق في الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، إذ إن واشنطن قدّرت بأقل من الحقيقة عزم صالح القوي على تقويض الحكومة ولم تواجه مناورته السياسية بحدّة. وبما أن نصف أعضاء مجلس وزراء الرئيس هادي يتألف من شخصيات من "حزب المؤتمر الشعبي العام" الذي يتزعمه صالح، فإن الدسائس السياسية للرئيس السابق أدت بشكل فعّال إلى تقييد الحكومة. إضافة إلى ذلك، وبعد رحيل السفير الأمريكي جيرالد فايرستاين في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، لم يتم إرسال السفير الجديد ماثيو تولر إلى صنعاء سوى بعد مرور ثمانية أشهر، وهو تأخير جوهري في الوقت الذي كانت فيه حكومة هادي تحتاج إلى دعم قوي من الولايات المتحدة. وفي وقت سابق من عام 2013، غادر جون برينان البيت الأبيض ليصبح مدير "وكالة المخابرات المركزية" بعد أن شغل منصب كبير مستشاري الرئيس أوباما في شأن اليمن، إلى جانب مهام أخرى، ما شكل تغييرا رئيسيا آخر في وقت كان فيه اليمن بحاجة إلى اهتمام مستمر من ذوي الخبرة لتخطي مرحلة الانتقال السياسي. وعلى الرغم من أن دعم الولايات المتحدة الدبلوماسي لاتفاق دول "مجلس التعاون الخليجي" أثبت دوراً فعّالاً في النجاحات الأولية في عملية الانتقال، إلا أن التناوب الذي حصل في منصب السفير الذي قاد هذه الجهود وانتظار ثمانية أشهر لإرسال سفير جديد أظهر قلة انتباه الولايات المتحدة وترددها. لذا، فإن الفشل في تنفيذ الاتفاقيات ومتابعتها بشكل فعال وفقاً لما تمت صياغته في "مؤتمر الحوار الوطني" قد أدى إلى زيادة تقويض حكومة الرئيس هادي. تقويض اليمن في كثير من النواحي، كانت استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية في اليمن، وفقا لجرين، غير مناسبة لدعم الرئيس عبد ربه منصور هادي خلال عملية الانتقال السياسي. فقد ركزت واشنطن جهودها المتواضعة على تدريب القوات الخاصة اليمنية لتعقب أعضاء تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب"، إلا أنها لم تبذل جهودا تُذكر لإرشاد الجيش الذي تم إصلاحه. وبما أن الجيش كان يشكل قاعدة الدعم المركزية للرئيس السابق صالح، كان لا بد من إيلاء اهتمام كبير لإضفاء الطابع المهني على أفراده ومنعه من أن يعود من جديد لكي يلعب دور طرف سياسي. ولو كانت الولايات المتحدة والقوات الدولية قد قامت بإرشاد الجيش، لربما كان وجودها قد خفف من "انهياره" في وجه تقدم الحوثيين - وهي نتيجة ناجمة عن عوامل سياسية، وليس بسبب انعدام القدرات أو عن قيادة ضعيفة. كما أنها كانت ستشكل آلية للإنذار المبكر لصانعي السياسة الأمريكيين حول جهود صالح ومؤيديه لقلب الجيش ضد حكومة هادي. وختاما يوصي جرين، بأنه لا بد من إعادة التفكير ملياً في الاستراتيجية الأمريكية في اليمن. فعلى واشنطن أن تعتمد الدروس المستفادة من قتال تنظيم "داعش" وانتهاج استراتيجية شاملة لدعم الرئيس عبد ربه منصور هادي، وفرض الاستقرار على الوضع العسكري في جنوب اليمن. يبقى أن صالح أعطي كثير من الفرص، خليجيا وعربيا، ليس من أجل شخصه، ولكن من أجل استقرار اليمن وشعبه. ومن أجل عودة المسار السياسي، والحوار الجاد لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني التي أجمعت عليها كل القوى السياسية بعد حوار عميق شارك فيه الجميع وتوافقوا على نتائجه، ولم يبق إلا تنفيذ المخرجات واستكمال ما تبقى من استحقاقات المبادرة الخليجية. ورغم ذلك أبى صالح إلا أن يكون تابعا حينا، ومحرضا حينا آخر، لكثير من النزاعات الداخلية، دون أي اعتبار لمصلحة الوطن ومصلحة أبنائه. لتأتي "عاصفة الحزم" بقيادة سعودية ردا على توغله وتوغل حلفائه في التهديد والتقويض. وحماية للشرعية، آخر ما تبقى من مقدرات الشعب اليمني السياسية.