×
محافظة عسير

عام / أمطار على محافظة النماص

صورة الخبر

في عام 1914 اندلعت الحرب العالمية الأولى ودخلت الدولة العثمانية طرفا فيها إلى جانب ألمانيا. شهدت اليمن العثمانية خلال سنوات الحرب ظروفا صعبة اقتصادية وعسكرية، وكان المستفيد من تلك المصاعب الإمام نفسه، حيث دافعت القوات العثمانية عن السواحل اليمنية التي امتد إليها حكم الإدريسي. ومن الإنجازات التي أحدثتها الدولة العثمانية في اليمن تشكيل أول نواة للجيش في اليمن من أبناء اليمن أنفسهم، وهذه النواة أصبحت أول جيش شبه نظامي استفاد منه الإمام في تشكيل جيشه بعد الانسحاب العثماني، كما استفاد الإمام مما توصلت إليه الدولة العثمانية من تحديد حدود اليمن مع المحميات الجنوبية الخاضعة للحكم البريطاني، فأصبح الإمام يشعر بأن حدوده الجنوبية آمنة وأنه لن يأتيه تهديد من بريطانيا من تلك الجهة. حطت الحرب أوزارها بهزيمة ألمانيا وبالتالي هزيمة حليفتها الدولة العثمانية ووضعت الشروط للاستسلام، وأصبح من الضروري بموجب هذه الشروط انسحاب العثمانيين من اليمن. ولكن كان أول المعترضين على انسحاب الجيش العثماني من اليمن هو الإمام نفسه الذي اشترط قيام هذا الجيش بمساعدته على إخضاع كل خصومه ومعارضيه وبسط كامل حكمه على الأراضي اليمنية، وهذا ما تم وكان قائد الجيش العثماني - وهو من أصل عربي من فلسطين يدعى الجنرال محمود نديم - حاول قبل انسحاب جيشه أن يسهم في الحفاظ على وحدة اليمن، حيث كانت هناك محاولة إلى تقسيمه إلى يمن زيدي ويمن شافعي وتمكين الإمام من بسط نفوذه على كل ما كان تحت نفوذ الدولة العثمانية وليس هذا فحسب، بل ترك معظم معدات الجيش العثماني تحت تصرف الإمام، وهناك بعض الضباط في الجيش العثماني من أصول عربية وغيرهم بقوافي اليمن قاموا بدور في تدريب الجيش اليمني الذي شكله الإمام، ولكن كان قوام جيشه - إن لم يكن معظمهم - من أبناء القبائل، خاصة القبائل الزيدية ولا أعتقد أنه التحق بجيشه الكثير من أبناء الطوائف غير الزيدية. كانت المعضلة التي واجهت آخر والٍ عثماني لليمن الجنرال محمود نديم باشا بعد هزيمة دولته في الحرب واستسلامها لشروط الدول المنتصرة هي رغبته في انسحاب قواته من اليمن بأقل خسائر، وبين رضوخه لرغبة الإمام يحيى حميد الدين الذي طلب مساعدته في إخضاع كل اليمن لطاعته بقوة الجيش العثماني كشرط قبل انسحابه، والوالي يعرف أن للإمام خصوما كثرا أهمهم سكان السواحل اليمنية الذين لا يريدون الرضوخ لحكم الإمام وسطوة قبائله شبه المتوحشة، وكذلك السيد الإدريسي الذي كان قد بسط نفوذه على أنحاء كثيرة من اليمن الأسفل ومعظم المناطق الشمالية من اليمن المحادة لمنطقة عسير. وكان الوالي، وهو على قدر كبير من الحنكة والتعقل والحمية الوطنية والروح الإسلامية النزاعة إلى منع سفك الدماء اليمنية على أيدي الإخوة اليمنيين بعضهم ضد بعض، عمل كل الوسائل للقيام بإجراء المصالحة بين الأطراف المختلفة، فكتب إلى زعماء القبائل الساحلية يدعوهم إلى مد يد المصالحة مع الإمام يحيى الذي تنظر له الدولة بعد توقيع اتفاقية دعان عام 1911 بأنه الأكثر تأهيلا لحكم اليمن، وحاول في رسائله إلى هؤلاء الزعماء أن يزيل ما هو عالق في نفوس سكان السواحل من مخاوف من الإمام وأتباعه، مع أنهم في جواباتهم إلى الوالي قد أعطوا الكثير من البراهين على ما تعرضوا له من القبائل التابعة للإمام من قتل ونهب وسلب وتدمير لكل مقومات حياتهم، إلا أنه ظل - أي الوالي - يناشدهم باسم الأخوة الإسلامية يدعوهم إلى مد يد المصالحة لمصلحة وحدة اليمن وحقن دماء أبنائه. كما راسل السيد الإدريسي مباشرة ومن خلال وسطاء من رجاله المقربين يذكره بأنه على أيدي الإدريسي وأتباعه فقدت الدولة العثمانية الآلاف من شبابها، وأنه باسم الدولة قد صفح عن ذلك ولا يريد أن تستمر المآسي في المزيد من سفك الدماء بين الإخوة أبناء الوطن الواحد، ويذكره بأن المستفيد هم أعداء الأمة الإسلامية الإنجليز الجاثمون على جنوب اليمن والإيطاليون المتربصون باليمن من الطرف الآخر من البحر الأحمر، حيث وجودهم في إريتريا والحبشة. وشرح الوالي في رسالة طويلة ومؤثرة، محفوظ أصل هذه الرسالة في الأرشيف العثماني، إلى زعيم قبيلة القحرة التهامية بأن سلامة اليمن وحقن دماء أبنائه أمانة في أعناق كل يمني، وختم رسالته بقوله "وقد برئت ذمتنا عند الله والرسول والخلق بما نصحنا وأنذرنا وأشهدنا الله ورسوله بقوله اللهم إني بلغت". مسكين هذا اليمن الذي وكأنه على موعد دائم لهذا القدر المفروض عليه من الشقاق والفرقة ليس دائما بفعل خارجي كما يريدون أن يبحثوا عن تبرير لأسباب مآسي اليمن، ولكن بفعل ما يرتكبه أبناء اليمن ضد أنفسهم. ظل أبناء الساحل على مخاوفهم من حكم الإمام، وذهبوا إلى طلب استمرار تبعية بلادهم للدولة العثمانية التي لا يعرفون أنها عما قريب لن يكون لها وجود، وإن لم يتمكنوا من ذلك فإنهم يطلبون ضم بلادهم إلى الحكم المصري، ولكن أي من المطلبين كان بعيد المنال لأسباب تحكمها متغيرات الخريطة السياسية العربية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. ولم يكن أمام هذا الساحل وأبنائه المسالمين إلا الخضوع لحكم الإمام الذي أمعن في الانتقام منهم نتيجة رفضهم الانضمام لحكمه. وما يمارسه الحوثيون الآن وفي المكان نفسه وبالأسلوب نفسه إلا تكرار لما حدث في مطلع العشرينات من القرن الماضي، كم أنت قاس أيها التاريخ حينما تعيد نفسك، وحينما لا تتعلم الشعوب أنني بهذه المناسبة آمل من السيد رجب طيب إردوغان أن يطلب من مساعديه أن يترجموا له رسالة آخر والٍ عثماني في اليمن السيد محمود نديم باشا إلى ذلك الزعيم القبلي ليعرف أن لليمنيين حقا عليه في الوقوف إلى جانبهم ضد أتباع الحوثي ومن يقف وراءهم في تدمير بلاد اليمن وسفك دماء أبنائه ولو فقط وفاء لدماء الجنود العثمانيين الذين ارتوت بهم أرض اليمن، وهم يحاولون أن يخرجوا اليمن من ظلامه ليرى الحد الأدنى من نور الحياة المعاصرة بمعايير ذلك الزمن أي قبل مئة وسبع سنوات، رحماك ربي باليمن وأهله.