«كريتير» مدينة يمنية جنوبية صغيرة جميلة، وذات تاريخ ممتد، وتحوي آثاراً تاريخية عريقة. عدد سكانها نحو 80 ألفاً، وحملت هذا الاسم الذي يعني «فوهة المدفع» بعد الاحتلال البريطاني عام 1839. هذه المدينة الساحلية دخلت نشرات الأخبار بكثافة منذ محاولات الحوثي اقتحامها لتنضم إلى قائمة طويلة من المدن والأحياء التي تشهد مقاومة صلبة لانتهاكات الحوثي وصالح، على رغم الفارق المهول في القدرات بشرياً وتسليحاً. قبل ذلك ألِف الناس أسماء القرى والبلدات السورية منذ عام 2011، وأصبحوا يحفظونها ويعرفون تفاصيلها السكانية وحكاية تاريخها، وطبيعة ولاءاتها، ثم لحقتها العراق مع تمددات «داعش»، فتعرف الناس للمرة الأولى على التركيبة المتنوعة للعراق في عرقياته وأديانه ومذاهبه، وتعرفوا إلى الآثار التاريخية وأنواعها ودلالاتها، بعد أن كانت هذه المعلومات قصراً على المؤرخين والمهتمين. في الحروب التقليدية كانت المدن الكبرى هي العلامات البارزة في السجلات والذاكرة، لأن السيطرة على مدينة محورية يؤدي إلى سقوط توابعها ومناحيها القريبة، لكن الحرب على الإرهاب مختلفة فهي ليست مواجهة عسكرية واضحة، بل ملاحقة متوالية لميليشيات وعصابات تستهدف البلدات الصغيرة لضربها والاعتداء عليها بحثاً عن نصر إعلامي، وتنفيذ مذابح مروعة وتدمير كل مقوماتها. حين يكثر ترداد أسماء قرى وبلدات يعني الأمر انتشار الفوضى وكثرة العصابات مهما كانت راياتها، ويؤكد أن الاختراقات واسعة ومتعددة، وأن القضاء عليها له ثمن كبير يفوق أحياناً، خسائر حرب تقليدية. اليوم، يستطيع أي شخص دخول مسابقة في معرفة أكبر عدد من القرى السورية والعراقية واليمنية، ويفيض في ذكر تفاصيلها أكثر مما يعرف عن بلده الأصل وتفاصيلها. يستطيع أي طالب أن يجادل معلمه في مواقع قرى سورية، وطبيعتها الجغرافية بمهارة باحث متمكن. كوباني التي كانت تعيش في عزلة ونسيان، أصبحت بوابة لمعرفة الأكراد وطبيعة طلباتهم ومناطق انتشارهم. صنعت الجماعات الإرهابية احتقاناً طائفياً ونفوراً عرقياً، وولدت حواجز من القطيعة والكراهية المصطنعة، لكنها خلقت من دون قصد روح اعتزاز ومقاومة، وأنعشت معنى الانتماء للمكان وقيمته، وأسست وجوداً للتعاون والتكاتف. على رغم كل الخسائر والمآسي المتولدة من الإرهاب، إلا أن التاريخ والجغرافيا كسبا حضوراً فاعلاً، بعد إن كانت سمتهما الملل والرتابة، واستعادا حيوية لا تعيشها سوى الجماعات المتطلعة إلى الكرامة والمجد. قريباً حين يسير المواطن اليمني في عدن وضواحيها سيجد لكل شارع ومكان قصة يرويها إما مشاركة، وإما مشاهدة، فمصنع الأسمنت تحول إلى نقطة مقاومة تحمل أسماء أبطالها وضحاياها، خور مكسر ستحتل مساحات في الذاكرة الجمعية وصفحات مشرفة في التاريخ. كلما برزت بلدات صغيرة في الضوء كان ذلك دليلاً على أن الاقتتال فيها من أجل الوجود والكرامة وهو ما يشكل حال انتهاء الظرف، قوة دافعة إلى الاستقرار والتنمية. قريباً، سيكون الوضع الدامي في اليمن تاريخاً يرويه الكبار بفخر واعتزاز، وهم يجدون في كل جزء من أرضهم منارة تاريخية، تؤكد أن مقاومتهم لم تذهب هدراً.