( 1 ) ظهر الدكتور عيد اليحيى على الناس ببرنامجه (على خطى العرب)، يتقيّل فيه -كما يرى- خطى العرب في منازلهم ومرابعهم، وبلدانهم، ينشد أشعارهم، ويحكي أخبارهم، في انتصاراتهم وهزائمهم، وسائر أحوالهم، يقول للمشاهدين هذه مرابع لبنى وسعدى، ومن هنا مرق تأبط شرّا، وهناك عقر امرؤ القيس للعذارى المطايا، ونحمد للدكتور عيد هذه الفكرة الحسنة في إظهار ما قد دُفن في مطاوي الكتب، التي استقلت بها دون أذهان الناس، وسعيه لإظهار هذه الأخبار لعامة الناس وتقريبهم من تراثهم وتاريخ أسالفهم، فهذه غاية شريفة، ونحلة كريمة، كان من الحق علينا شكر الدكتور عليها، ومؤازرته فيها، ولسنا في مقام غمط الناس حقوقهم، ولا التجني عليهم. وقد كان أن أحسنت بالدكتور ظنًا، فهو عندنا ممن لا يمضي القول إلا بعد طول تلبث وتثبت، وعلى هذا شاهدت الحلقة الأولى من برنامجه، ولكن الظنون كواذب، فقد بدا من البرنامج ما أفزعني، ومع هذا الفزع والألم والغضب من تلك الحلقة إلا أنني كذبت نفسي، ولم أجعل لعرام الغضب أن يصدرني عن شر مورد، ولا لبادئ الرأي أن يصرفني عن التأمل والنظر، فعدت إلى البرنامج ورأيته كاملاً، وعلى مدار اثنتين وثلاثين حلقة لم تزدد تلك الأغاليط إلا تفاقمًا، وسألت نفسي لمَ رضي الدكتور عيد اليحيى أن يظهر بهذه الصورة، و كيف جاز لقناة تحمل اسم هذه اللغة الشريفة أن تنشر هذا العمل الذي تحول إلى عبث بالغٍ أفسد اللغة وأفسد الشعر وأفسد الأعلام وأفسد المواضع والبلدان؟! والدكتور عيد اليحيى يقول في مجالسه إن الهدف تقريب التراث لهذا الجيل، ومن شأن التفاصح تنفير الناس، و البرنامج شعبي لا يتغيّا المتخصصين دون غيرهم، وسنتجوّز في هذه المسألة، ونتنزّل غاية التنزل، ونقول: حسنًا يا دكتور، تحدث بالعامية ما شئت أن تتحدث، وأغْرِق فيها ما شئت، فهي حمى مستباح، ولكن ما شأن الشعر أن تنشده بهذه الطريقة المخزية؟ فتقدم الكلمة وتؤخر الأخرى، ولم ترفع المنصوب، وتنصب الفاعل؟ وتقطع الوصل وتصل المقطوع؟ وما شأن أسماء الأعلام أن تنطقها على هذا النحو؟! إن هَرِم بن سنان بالفصحى الثقيلة على النفوس المغرقة في الأكاديمية هو هَرِم بالعامية !ولا تكون شعبيًّا قريبًا من الناس متجافيًا عن المتحذلقين من أهل اللغة إذا نطقت اسمه هكذا (هَرْم). كل هذا ضرب من العبث لا يجوز لك أن تخوض فيه، ولا يحق بحال من الأحوال لك فعله، ولا يغرنّك قول بعضهم البساطة والتلقائية، والتجافي عن النخبوية، فاطراح الكلفة، لا يعني أن تقرأ البيت غلطًا، ونسبته لغير قائله! وأشد ما وقع في النفس من ألم هو داء الاستهانة الذي عجّ به البرنامج، وتعج به حياتنا الثقافية والأدبية، يُقدم أحدهم على عمل ولم يأخذ له أهبته، بل يكفيه أن يُدير الفكرة في رأسه سويعة، ثم ينفذ فيكتب مقالة مشحونة بالأغاليط، أو يسطر كتابًا يزخر بالتخليط والجهل والاستغفال، أو يخرج برنامجًا فينشد الشعر كيفما اتفق لا يلتفت إلى وزن وقافية وإعراب، وظاهرة الاستهانة تفشت في زماننا هذا صنيعة المجاملات والمداراة التي طغت على حياتنا، فكل واحد يداري صاحبه، ويتلمس مواطن رضاه ولو على حساب العلم والحق، وهو يعلم علم اليقين تخليط صاحبه، ولكنه لا يرفع بهذا رأسا. وأسوأُ أيامِ الفتى يومَ لا يَرى بها أحدًا يُزري عَليهِ ويُنكرُ قال أبو أحمد العسكري في مقدمة كتابه (شرح ما يقع فيه التصحيف): (هذا وقد كان النّاس فيما مضى يغلطون في اليسير دون الكثير، ويُصحِّفون في الدّقيق دون الجليل لكثرة العلماء، وعناية المتعلمين، فذهبت العلماءُ وقلّت العناية، فصار ما يصحّفون أكثر مما يُصحِّحون، وما يُسقطون أكثر مما يَضْبطون.!) وإذا كان الدكتور يقدم نفسه على أنه العالم بأشعار العرب المتخصص فيها، الحافظ لمعلقاتها وعيون أشعارها كما صرّح في برامج التواصل ثم نراه لا يقيم وزن بيت واحد من معلقة فضلاً عن عيون الشعر العربي، فما قولنا في غير المتخصصين في الشعر العربي؟! وفي لقاء مع قناة العربية سأل المذيع الدكتور اليحيى عن الأخطاء واللحن التي عجّ بها برنامجه، فأقر الدكتور بهذا، ثم أردف بعجيبة من عجائب زماننا هذا، إذْ قال: البرنامج لا يقدم للأكاديميين بل لعامة الناس. اهـ وهذه داهية دهياء حين تهدم صروح اللغة لأن المشاهد غير أكاديمي، وكان الأوفق أن يقول العكس، فالمتخصص في شعر العرب يعرف مواطن الخلل، فإذا أنشدت البيت غلطًا عرف الغلط، وتبين وجه التخليط والإفساد، ولكن ما شأن العامي الذي تنفق عنده أغلاطك؟ وينطلي عليه تخليطك؟ وهذا عذر لا يجمل بك قوله، ولا تقديمه، أما عذر الإعداد وضيق الوقت فتلك أشياء نجل الدكتور أن يتذرع بها، ثم يذكر قصة عبدالملك بن مروان وخشيته من اللحن، ونسي أو تناسى -أصلحه الله- أن خوفهم من غلْطة كي لا تحفظ عنهم، فتصير سبة على وجه الدهر، أما أن تعجز عن إقامة المعلقات إقامة صحيحة فتلك مصيبة وأي مصيبة؟! ثم يرجع الدكتور يحيى في لقاء المجلة الثقافية معه عدد 485 إلى قضية اللحن مرة أخرى، ولكنه هذه المرة مشهرًا سيف التحدي للجميع حتى المختصين فيقول بالنص: (وأتحدى حتى المختصين أن يقفوا أمام صخرة بالصحراء ويقرءوا معلقة لبيد بن ربيعة أو طرفة بن العبد أو امرئ القيس قراءة سليمة خالية من اللحن والشوائب.) وهذا التحدي لا قيمة له ولا يلتفت إليه لأمور: أولاً :إذا كان الدكتور يلقي الشعر ارتجالاً -كما ذكر- فحفظه هو من خانه، فقد حفظ على لحن، فلا شأن للارتجال في فساد الألسن، ولو كان الارتجال يورث اللحن وفساد اللسان لرأينا كل من ارتجل بيت شعر وقع في الغلط واللحن. ثانيًا: تحديه للمختصين من فضول القول، لأن المتعمق في العربية وعلومها قد تلقى العربية كابرًا عن كابر، وهو من التواضع بحيث يرجع إلى نفسه إذا آنس الخطأ، فيصلح من شأنه ما يدفع به معرّة اللحن. ثالثًا: إذا كان الدكتور يجعل الارتجال سبب اللحن ولا غير، فلا أقل من أن يظهر ورقة يقرأ فيها الشعر قراءة صحيحة، فذلك خير من إفساد الشعر والمواضع والأعلام.! كما أن اليحيى في اللقاء نفسه يقول ما نصه عن زيارة مواضع التراث والآثار: (لكن هذا للأسف لم يحصل وربما لن يحصل لأنه حتى المتخصصين والأكاديميين لم يقفوا أصلاً على هذه الأماكن، كما أنه ليس لديهم أي رغبة بالذهاب إليها) وهكذا بجرة قلم طمس جهود العلماء وأوقاتهم التي بذلوها في تتبع المواضع والآثار، وتلك الكتب التي سطرت وصنفت، ونذكر الدكتور ببعض العلماء الذين أفنوا سنيهم، ولباب أوقاتهم في هذا الفن: فمن العلماء غير المتخصصين : الشيخ حمد الجاسر في كتاباته عن جزيرة العرب كلها، وشيخنا الشيخ محمد العبودي -متعه الله بالصحة والعافية- في كتابه عن بلاد القصيم، وابن خميس عن اليمامة، وابن جنيدل عن عالية نجد، وعبدالله الشايع المُجدّد المجتهد في البلدانيات ومن الأكاديميين: شيخنا أ.د. عبدالعزيز الفيصل – حفظه الله-، والدكتور سليمان الذييب وجهوده في توثيق الآثار، والدكتور عبدالرحمن السعيد في دراساته للنقوش الشعرية، وغيرهم من الأساتذة. ثم يأتي الدكتور عيد اليحيى ليحيل جهود هؤلاء إلى رُكام من الورق المغبر، والحبر المسفوح بلا ثمرة ترجى، ولا فائدة تجنى، وليزعم أنه الواقف الوحيد على تلك المواضع، الكاشف عن مخبآتها! ومن كان يهوى أن يُرى متصدِّرًا ويَكرهُ «لا أدري» أُصيبت مقاتلهْ وفي هذه المقالة -وما يتبعها إن شاء الله- سنقتفي النَّصَفَةَ فلا نظلم أنفسنا ولا نظلم اليحيى، وكل تصويب وتصحيح لا يعضده شاهد من كلام العرب وعلمائها، فليجعله دبْرَ أُذُنه. أما وقد أخذنا بهذا العهد على أنفسنا، فقمين بالدكتور عيد اليحيى -وهو الموصوف برحابة الصدر- أن يتقبل هذا بصدر لا يجد حرجًا، فلا يضج من تصحيح، ولا يتململ من تصويب. وحاشاه أن يكون ممن عناهم أبان اللاحقي: يَكسِر الشعرَ وإن عَاتَبْته في مُحالٍ قالَ «في هذا لغهْ» وهذا البيت في رجل كلما أخطأ فقيل له: هذا لا يجوز. قال: في هذا لغة. ولئن أدار اليحيى برنامجه على إعادة الناس لتراث العرب، ونثّه بينهم، فإننا نكسر مقالاتنا هذه على مثل ما ذهب إليه الدكتور. وقد تعددت المآخذ على البرنامج فمنها ما وقع في الأعلام وضبطهم، ومنها ما وقع في ضبط إنشاد الشعر، ومنها ما وقع في الأبيات من كسر لها، ومنها ما وقع في تفسير معاني الشعر وأحوال العرب، ومنها ما كان في التاريخ وأحداثه، وسنقف عند كل قسم نبين الصواب فيه إن شاء الله. وسنرمز للدقيقة بحرف الدال فتكون هكذا (الحلقة الأولى، د:15.20) وعلى هذا سنسير في هذه المقالة، وما سيتبعها، إن شاء الله. أولاً: ضبط الأبيات، والكلمات: تفشت القراءة غير الصحيحة للأبيات الشعرية في حلقات برنامج الدكتور عيد اليحيى (على خطى العرب) وشكلت هذه القراءة أصلاً في البرنامج لا يحيد عنه إلا ما ندر ، سواء كانت من المعلقات أو غيرها من عيون الشعر العربي الذي يحفظه الدكتور!، وهذه القراءة غير الصحيحة أخلت بالوزن حينًا، وأحالت المعاني حينًا آخر، وقد يعمد الدكتور إلى تقديم بعض أجزاء البيت على البعض الآخر، أو يضيف ما لم ترد، أو ينطق كلمة نطقًا لا يصح في وجه من العربية، وهذا تفشى على نحو لا يعذر معه الدكتور عيد اليحيى، ونحن نعجب من د.عيد كيف يفوته هذا؟ ولماذا لا يحس بثقل حينما يبعثر أجزاء البيت ويقدم ويؤخر ويحذف ويضيف، وما يحدثه هذا من إفساد للبيت، وركاكة في المعنى؟ وإذا نظرنا إلى برنامج (على خطى العرب -الجزء الأول-) عثرنا على خطأين في أول بيت ينشده في برنامجه وفي حلقته الأولى. 1-ففي (الحلقة الأولى: د:5.40) أنشد بيتًا نسبه إلى جرير يهجو فيه الفرزدق: وشيطانه من الجن أنثى وشيطاني من الجن ذكر وقد وقع في هذا الموضع في غلطين فالأول غلط الإنشاد، والثاني، نسبة البيت لغير صاحبه فصواب الإنشاد: إني وكلّ شاعرٍ مِن البَشَرْ شيطانُهُ أُنْثى وشَيْطاني ذَكَرْ وهذا من رجز لأبي النجم العجلي الراجز المشهور في أرجوزته التي مطلعها: تذكَّر القلبُ وجهلاً ما ذكرْ مشْيَ العَذَارى الشُّعث يَنفُضن العُذَرْ وهو مقطوع النسبة إلى أبي النجم، ولم يُنسب إلى غيره فيما أعلم (انظر ديوان أبي النجم العجلي ص161 «تحقيق جمران» والشعر والشعراء ص 603 «تحقيق أحمد شاكر» .) وانظر إلى تجوز اليحيى في هذا وسهولة نسبة البيت إلى غير صاحبه، وقد جهدت أن أجد نسبته إلى جرير، فرجعت إلى ديوانه، ونقائضه مع الفرزدق لعل أحدهم نسبه إلى جرير غلطًا فتبعه اليحيى في وهمه ولم أجد شيئًا من هذا. 2-وفي الحلقة نفسها (د،6.30) أنشد اليحيى بيت امرئ القيس: *وواد كجوف العِيرِ قِفْرٌ قطعته* وقد وقع في غلطين، أما الأول فكسره العين في (العير) والثاني كسره القاف في (قفر) فالأول صوابه: وواد كجوف العَيْرِ قَفْرٍ قطعته به الذئب يعوي كالخليع المعيّل والعَير هو الحمار الوحشي منه والأهلي، كما قال الأول: *لو كُنتَ عَيراً كُنتَ عَيْرَ مذَلَّة* وأما العِيْر بحسب إنشاد الدكتور اليحيى فهي: القافلة، وقيل الإبل التي تحمل الميرة، وقد قال تعالى (أيتها العِيرُ إنكم لسارقون)، فشتان بين عَير وِعير! والثاني صوابه( قَفْرٍ) هكذا. (ديوانه 245/1، شرح ابن الأنباري 80، ابن النحاس 163/1، التبريزي 70) 3-في الحلقة الثانية: (د.23) أنشد بيت جُحدر العكلي: وأهوى أن أعيد إليك طرفي على عَدْواء من شغلي وشاني وصواب البيت (على عُدَواءَ من شغلي وشاني) (الأمالي لأبي علي القالي، 1/281)، والعُدَواء: البعد. ونظير هذا قول الحماسي: رماها بمطْرورٍ أمازق بينها على عُدَواءَ والعُتيرُ يقودها 4- وفي الحلقة الثالثة وفي (د.12.21) أنشد بيت مجنون ليلى: صغيرين نرعى البَهَمَ ليت أننا لم نكبر ولم تكبر البهم وأنت ترى أيها القارئ الكريم مقدار البلاء الذي حلّ ببهم مجنون ليلى، فالبيت مكسور منقوص، ممزق الجسد، وصواب البيت: صغيرين نرعى البَهْم [يا] ليت أنَّنا [إلى اليوم] لم نكبر ولم تكبر البهم (ديوان مجنون ليلى، ص186) وما بين المعقوفين لم يرد في رواية الدكتور عيد اليحيى ! 5- وفي (د.13.10) أنشد قول المجنون: وما بي إشراك ولكنَّ حبّها كعَودِ الشجى أعيا الطبيب المداويا بفتح عين (عود) وهذا غلط وصوابه: *كعُود الشجى أعيا الطبيب المداويا* و العُود هو ما يعترض الحلق وينشب، ولا معنى للعَود بالفتح، ورواية الديوان (كعظم الجوى، ص228) 5- في الحلقة الخامسة (د.1.30) أنشد الدكتور عيد بيت امرئ القيس على هذه الصورة: مَكَرٍّ مَفَرٍّ مقبلٍ مدبرًا معا كجلمود صخر حطه السيل من علِ وفي الشطر الأول فحسب وقع الدكتور عيد في أغلاط عدة، فمكر ومفر بكسر الميم لا بفتحها، ومدبرٍ بخفضها لا نصبها، ولا نعلم لأي سبب نصب (مدبر)؟ ولا لأي علة خالفت (مدبر) أخواتها؟ يقول أبو بكر الأنباري -رحمه الله-: ومكر مفر مقبل مدبر، نعوت لمنجرد. (شرح ابن الأنباري، 83) وصواب البيت ( ديوانه 247/1 ،شرح ابن الأنباري، 83، ابن النحاس 165/1، التبريزي 73): مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معًا كجُلمودِ صَخرٍ حطّه السيل من عَلِ ... يتبع - عبدالله المقبل a_maqbl@