في برلين، في انتقالي من المطار، قال السائق التونسي بأسى إن ألمانيا، وهي دولة عُظمى بكل المعايير، لا تتمتع بالسيادة لأن فيها نحو 22 قاعدة للجيش الأميركي - حسبما ذكر! انتقل للتحدث عن بلده وعن بلدان عربية أخرى بمزيد من أسى مجروح. بقي معي أساه وأسى كثيرين من الذين ينعون السيادة في هذا القُطر العربي أو ذاك طيلة سفرتي. السيادة، هذه الضالة المنشودة التي اتفق عليها المؤتمرون في صلحي وستفاليا العام 1648، المرتبطة بالجغرافيا، اكتسبت معنى وفقدت آخر. ثم جاءت العولمة فأخضعتها أو قلّصتها وليس بالنسبة للدول الصغيرة أو الضعيفة فحسب بل بالنسبة لتلك القوية، أيضاً. الدول في المرحلة القومية المُبكرة سعت إلى بسط سيادتها وسلطتها على كامل ترابها - من أول شِبر إلى آخر شبر لأنها ارتبطت مباشرة بالعامل الجغرافي كمكوّن أساس في وجودها ورسم حدودها وتأشير هذه الحدود بمختلف الإشارات والأسوار ونقاط العبور باعتبار الأمر حياة أو موتاً بالنسبة للدولة. لكن السيادة التي قامت على أسس أخرى مثل الجيش وأذرع الأمن (القوة)، والقانون والمحاكم والعلم وجواز السفر والعملة الوطنية والنشيد الوطني، كانت تتقلص أو تتمدد تبعاً للظروف وكجزء من التحول في مفهوم الدولة. والأهم، كجزء من مفهوم المصالح الوطنية وتلك المتبادلة أو المشتركة بينها وبين دولة أخرى أو مجموعة دول. افترضت الاتفاقات الاقتصادية والتحالفات العسكرية أن تتنازل الدول عن أجزاء من سيادتها لضمان مصالحها. هكذا، في دول حلف الناتو كلها بخاصة أيام الحرب الباردة. كما إن عضوية السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي استدعت من الدول الأعضاء سلسلة من الالتزامات في كل المستويات لا سيما القانونية والدستورية وعملية صنع القرار تشكل انتقاصاً لمفهوم السيادة الكلاسيكي أو تطويراً له كما يرى ذلك البعض. أما يورغن هبرماس (من رموز مدرسة فرانكفورت والذي لا يزال نشطاً وفعالاً ينقد التاريخ ومؤلفاته هو، أيضاً) فيُشير إلى الضغط الذي أحدثته العولمة على الدولة القومية لجهة الانتقاص من مفهومها الكلاسيكي. فالعولمة، بحسب هبرماس، انتقصت من السيادة الكلاسيكية لجهة إزالة الحمايات الوطنية في وجه تدفق الرأسمال والعمالة والسلع دخولاً وخروجاً. وانتقصت من استقلالية صنع القرار الوطني من خلال الإملاءات الواضحة للمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي والمنظمات الاقتصادية الكبيرة التي توجب نسبة محددة من البِطالة ونسبة محددة من الفائدة وحجم القطاع العام وحجم تدخّل الدولة في الاقتصاد وحجم الدعم الحكومي والتقدمات وما إلى ذلك. بل يخلص هبرماس إلى القول إن الديموقراطية الكلاسيكية المفصّلة على مقاسات الدولة الإقليمية تعرّضت في ظل العولمة لضغط من خارجها لجهة إضعافها أو محاصرتها. ويدعو إلى إعادة النظر في مفهومنا للدمقراطية باعتبارها حكم الشعب وإرادته في ظلّ التدخل المضطرد لقوى العولمة في الشؤون الداخلية للدول. ومن مشاهدات العقود الأخيرة أن حملات الانتخابات في الدول المختلفة تتم بتدخل واضح أو خجول لدول أخرى أو قوى خارجية ليست دولة بالضرورة. ولعلّ أبرز أدوات التدخل إطلاق حملات دعاية من خارج الدولة المعنية لمصلحة مرشّحين أو ضدهم، أو تمويل حملات انتخابية في الدولة المعنية بأموال شركات أو أباطرة المال من الخارج. وهناك شركات متخصصة في الإعلام والاستقصاء وإدارة الحملات تأخذ على عاتقها القيام بمهمات إعلامية غير بريئة في طول الكرة الأرضية وعرضها استناداً إلى معلومات من مصادر مخابراتية على الغالب، أو تكلّف مهام إدارة الحملات الانتخابية في هذا البلد أو ذاك. إن مفهوم السيادة، إذاً، ليس ثابتاً بحُكم عاملين اثنين مهمين، الأول: عامل فوارق القوة القائمة بين الدول ومواقع هذه الدول على خريطة التوازنات الجيوسياسية ـ الاقتصادية، وقد كان قائماً منذ نشوء الدولة الحديثة. والثاني: اندفاع العولمة باعتبارها نظاماً متشابكاً من المصالح اللانهائية التي تُديرها مراكز قوة فوق الدولة ومن خلالها. وقد تقلّصت السيادة بحيث أصبحت الدولة عبارة عن جهاز جباية أو مجموعة مؤسسات تخدم الشركات متعددة الجنسيات وأساطين المال ليس أكثر. إن ما حصل في اليونان مؤخراً اعتُبر نموذجاً لتمرّد الشعوب على النظام العالمي الذي ينتقص من نظام سيادة الدول والمجتمعات. ومع هذا، فإن المكسب الانتخابي للشعب اليوناني ظلّ محدوداً بدلالة أن حكومته الجديدة ذات النزعة الرافضة لإملاءات الاتحاد الأوروبي قبلت بمساومة «الاتحاد» وتبنّت شروطه لتسوية ملفّ الديون. والأمر ذاته ينشأ أمام أعيننا في إسبانيا التي تعاني وضعاً مشابهاً يتلخص في ركود اقتصادي مستمرّ مقابل اتساع المديونية الخارجية. هنا أيضاً، يبدو الشعب الإسباني (على مركّباته) رافضاً لهذا التدخل الخارجي في شؤونه ونمط حياته ومستوى معيشته. ومن غير الواضح ما ستؤول إليه الأمور هناك لكن من الواضح أن سيادة البلد المنقوصة في ظل الموقع الإشكالي لإسبانيا في اقتصاديات أوروبا والعالم هي جزء من هاجس الإسبان الانتخابي والوجودي. ولدينا فنزويلا مثال آخر، وهناك أوكراينا أيضاً، كحالتين واضحتين لتدخلات الخارج في أوضاعهما الداخلية وتحديد وِجهة نظام الحكم وهوية الحكومة. السيادة التي تطورت على صيغة ما في تجربة الدول وفي العلاقات بينها وفي إطار القانون الدولي تبدو لي في العقود الأخيرة غيرها. ومن هنا، وجوب قراءتها ليس من زاوية المعاني المتقادمة لها ومن الهويات والعصبيات، بل في حركتها وتحولاتها. وهي ليست تحولات مرغوبة كما رأينا في حالة اليونان وإسبانيا مع أنها حقيقة ناجزة. تُفيد تنظيرات في علمي السياسة والاجتماع مشتقّة من خطاب العولمة أن الدول تفقد من معناها باتجاهين، باتجاه كيانات كبيرة (الاتحاد الأوروبي مثلاً) أو باتجاه كيانات صغيرة (مقاطعات انفصالية أو مطالبة بالانفصال عن الدولة الأم ونزعات إقليمية معبّر عنها صراحة في برامج أحزاب وحركات كما في شمال إيطاليا). وتصير سيولة المفهوم لا تُطاق عندما تكون الدولة هشة ومصدر شرعيتها مهزوزاً.