لم يدرك الشاب محمد البوعزيزي وهو يُضرم النار في جسده محتجا على مصادرة السلطات التونسية لعربته الخاصة لبيع الخضروات في أواخر عام 2010 أنه أيضا سيضرم النار في المنطقة العربية برمتها، وأنه بعد تصرفه المحتج هذا اشتعلت ثورات في جهات مختلفة من الوطن العربي أحرقت بلادا، وأسقطت رؤساء، وأظهرت بلاء كان كامنا في قمقم كتب التراث والتاريخ، يمتهن القتل ولا يرتوي إلا من الدماء البريئة المسفوكة، ومصادرة الحياة والأرواح، يتحجج بنصرة الإسلام وبحلم الخلافة ويطمح لحصاد الغنائم والجزية، ويحلم بخيال الحوريات، ويدعي تطبيق الشريعة حسب ما تصور لهم أذهانهم السقيمة وفهمهم القاصر. كانت تونس أول البلدان العربية اختبارا لهذه الثورة ويمكن القول إنها أقل البلاد ضررا مما حدث ويحدث في البلدان العربية الأخرى التي ما زال بعضها يتأجج صراعا سياسيا وطائفيا وقبليا، وما زالت تحرق بنار وقودها الشعوب المسحوقة الضائعة بين أقدام السياسة وألاعيبها التي لا تهتم لجوعهم ولا لخوفهم. لعل نجاح ونجاة التجربة التونسية بين الثورات العربية الأخيرة يعودان إلى كونها دولة متحضرة ومتقدمة معرفيا وسياسا وتنمويا قياسا بالدول الأخرى. ومن جرب الحياة في تونس ولامس الوعي الثقافي والسياسي الذي يعيشه الجميع بدءا من الرجل البسيط الأمي في الشارع حتى الأكاديمي الحاصل على أعلى الدرجات العلمية، يدرك أن هذا الشعب ينقذه كثيرا علمه ووعيه وانفتاحه على العالم بشكل متزن لم يُفقد تونس هويتها وحضارتها أو يذوّب شخصية التونسي المميزة. بالإضافة لاهتمام تونس واحتوائها على كثير من المعالم السياحية والأثرية المشهورة منذ القدم ورعايتها لمختلف الفنون جعلها وجهة سياحية شهيرة يقصدها السيّاح الأوروبيون بالدرجة الأولى وتشكل موارد السياحة جزءا كبيرا من اقتصاد البلاد. كانت تجربة تونس نحو الديموقراطية ناجحة أيضا وذلك بعد خوضها مؤخرا لأول انتخابات رئاسية بعد إسقاط الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وبعد إقرار دستور تونس الجديد من قبل المجلس الوطني التأسيسي والذي نتج عنه فوز مرشح حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي. هذا النجاح لم يعجب بطبيعة الحال الحركات السياسية الإسلامية المتطرفة التي توجد وتتكاثر في الجوار القريب من تونس، ولا يخدم مطامعها المتطرفة، ونواياها الدموية. فها هو تنظيم داعش، كما تعهد، وصل إلى الشمال الأفريقي ولأفريقيا السوداء، ويوجد له أنصار ومعسكرات تدريب وتجنيد في ليبيا، كما قام زعيم حركة بوكو حرام النيجيرية أبوبكر شيكاو مطلع هذا الشهر بمبايعة خليفة داعش البغدادي، واستطاع أن يوجه الأسبوع المنصرم ضربة غادرة لتونس بالهجوم على المتحف الوطني بباردو الملاصق للبرلمان التونسي، والذي نتج عنه مقتل 25 شخصا، من بينهم عشرون سائحا أجنبيا من بريطانيا وإيطاليا واليابان وكولومبيا وفرنسا، والتنظيم بهذه الجريمة يواصل ما انتهجه في عملياته الإجرامية السابقة في العراق وسورية وغيرهما من تشويه للإسلام، ويواصل عمله الممنهج لقتل الأبرياء تحت ذرائعه القديمة، ويسعى في محاولات بائسة إلى المساس بأمن تونس الذي يبدأ أولى خطواته الجديدة على طريق الديموقراطية وبناء الدولة الحديثة بمعاونة شعبه المتحضر بالفطرة. تونس بشكل خاص، ودول المنطقة بشكل عام، تواجه دون شك خطر هذا التنظيم وغيره من التنظيمات التي تحيط به، خاصة دولة الجوار ليبيا التي أصبحت للأسف بتواطؤ عالمي مخز مرتعا للميليشيات المسلحة المختلفة وساحة للاقتتال وميدانا لداعش التي تدرب فيها العشرات، حيث تبين أن منفذي الهجوم على متحف باردو قد تلقوا التدريب مسبقا في ليبيا. داعش وغيره من الفرق والأحزاب المتطرفة والطائفية تحاول بعملياتها الإجرامية هنا وهناك أن تثير حروبا نفسية، وأن تُثبت أنها قادرة على تنويع جبهاتها حول العالم كما تعهدت، وذلك عن طريق تجنيد عدد كبير من شباب هذه الدول للقيام بمثل هذه العملية الغادرة. الهجوم الدموي على متحف باردو الذي يضم آلاف اللوحات الفسيفسائية التاريخية والقاعات المتنوعة التي تحوي مختلف الفنون، بعضها يعود تاريخها للقرن الثاني من الميلاد، فيه رمزية لأعمالها الإرهابية الأخيرة من تحطيم للآثار التاريخية النفيسة في متاحف الموصل، وكأنها تدير البوصلة أيضا تجاه محاربة الفنون والجمال وهي النقيض الطبيعي للقتل والدماء. تونس اليوم وهي وسط جراح الغدر ومقاومة تيارات التطرف والمحاولات الداخلية والخارجية للنيل من تميزها وأصالتها، واصلت الاحتفال بأيام قرطاج الموسيقية التي عاودت نشاطها هذا العام بعد توقف لأربع سنوات، وكأنها تؤكد بهذا أن الفنون بمختلف أنواعها هي الطريق نحو عودة الإنسانية لقلوب البشر التي تحجرت من مناظر الأشلاء والدماء وأخبار الاقتتال والتفجيرات والحروب، وهي الدواء الناجع للوقوف في وجه الإرهاب بإقامة المهرجانات الفنية وتطعيم الحياة بجمالياتها، كما تفعل تونس وكما كانت تفعل دائما لتزيد وعي الإنسان وترفع من قيمة الإحساس بالجمال وجدوى الحياة. ونقول لها ما قال محمود درويش رحمه الله وهو يتساءل كيف نشفى من حبها؟: "حافظي على نفسك يا تونس".