خرج يهود القرون الوسطى من «غيتو» العزلة في أوروبا. أعلنوا «الحضارة اليهودية المسيحية». اجتاحوا الرأسمالية. فامتلكوا كازينو البورصة. وأسهم الشركات الكبرى. وأرصدة المصارف. عزفوا عن الوظيفة الحكومية. فاحتكروا المهن والخدمات الاجتماعية: الطب. الصيدلة. دور النشر. الصحافة. الإعلام. الثقافة. الفن. الملابس الجاهزة. حلاقة الرؤوس الناعمة والخشنة. سحقوا الفاشية بمعسكر الديمقراطية. استقروا في أحزاب اليمين. واليسار. والوسط. فأداروا بنفوذهم السياسة. هاجر عرب اليمن وبلدان المغرب إلى أوروبا، فاحتلوا «الغيتو» الذي أخلته اليهودية. اعتزلوا. فتأخروا. اشتغلوا عمالا في السلم. وجنودا لأوروبا في الحرب. هاجر عرب الجيل الثاني بعد الحرب العالمية الثانية. فورثوا «غيتو» الجيل الأول. أنتجوا الجيل الثالث. جيلا نسي اللغة. والهوية. فأدمن الديانة. وسع العرب المهاجرون «غيتو» العزلة. فأضافوا إليه «غيتو» الفقر والغضب. «غيتو» أحزمة البؤس حول المدن الأوروبية الكبرى. «غيتو» ضواحي اليأس. يخرج المراهقون من جهل السلطة الأبوية المطلقة. إلى حرية الفراغ المطلق. فتتلقفهم مافيات الجريمة القذرة والجريمة السهلة. في «غيتو» السجن تنتظرهم عنصرية الحراس. و«إصلاحيات» العنف الديني. هنا في السجن المزدحم (ثلثا المساجين من العرب والمسلمين) تتم «قولبة» شباب العنف الذين باتوا يحملون لقبهم العالمي: «الإرهابيون». يخرجون من السجن مؤهلين للانضمام إلى تنظيمات العنف الديني المشرقية أو تنظيمات العنف المغاربية وأذرعها الأوروبية. رفدت الهجرات المشرقية الهجرات المغاربية. مات عبد الناصر. فيئست العروبة. «عربيات» طائفية. وعنصرية. «تطيفت» الأحزاب. فماتت الديمقراطية العربية الوليدة. تأله زعماء ورؤساء الاستقلال. فضاقت المجتمعات بالقهر. بالفساد. بالحروب. فهاجر العراقيون. اللبنانيون. الأكراد. وهاهم السوريون ينزحون. عشرة ملايين لا يجدون مأوى ومأكلا في الداخل. خمسة ملايين لاجئ موزعون على لبنان. الأردن. مصر. تركيا. مليون سوري يسبحون بعفشهم. سياراتهم، بحرا. وجوا. ومشيا على الجسور المجهولة. إلى أين؟ آه... إلى أوروبا. هاجر «إخوان» الجزائر. ومصر. وسوريا، إلى أوروبا. فعززوا «غيتو» العزلة والغربة. «أَخْوَنَ» شيوخهم الدين. ففصلوا العقل عن الفكر. ولقَّنَ أئمتهم جمهور المسجد إسلام التقليد والنقل. سيَّسوا «الغيتو». فهاجر شبابهم إلى إسلام التزمت. التقوا شباب العنف الديني، تحت الشعار المستحيل: أسلمة أوروبا! من قال إن قبائل أوروبا متعقلة في جاهليتها؟! فقد ضحت حربان عالميتان بمائة مليون من السلاف. الجرمان. اللاتين. الإنجليز... خرجت القبائل الأوروبية من أهوال حروبها بضميرين متناقضين: ضمير استعماري ركبه الحنين إلى احتلال عسكري مستحيل، فاستبدله باستعمار اقتصادي للشعوب النامية. وضمير آخر اجتماعي مؤدب مهذب، ولدت في حضنه الدولة العالمية (الأمم المتحدة) مسلحة بفيتو مجلس شرطتها الذي يشل مفهوم حقوق الإنسان. ومفهوم دولة القانون. والديمقراطية. وسعت الديمقراطيات الأوروبية التقديمات والضمانات الاجتماعية. فكفلت الدولة الحانية لمواطنيها والمهاجرين لديها حق التقاعد. والعلاج. وهذّبت شروط وظروف العمل. عالج الرئيس نيكولا ساركوزي العنف الديني، بنقيض علمانيته اللادينية. فأنشأ مرجعية دينية معترفا بها رسميا، لعرب فرنسا ومسلميها. فهيمن عليها إخوان «الغيتو». لحقت العولمة بمرجعية «الغيتو». فصارت هناك مرجعية دينية لكل جالية عربية وإسلامية في دول الاتحاد الأوروبي الكبرى. فتعطل دمج ثلاثين مليون عربي ومسلم في المجتمع. والدولة. والأحزاب. وأسواق الوظيفة. والتجارة. فتأصلت عوامل الفرقة. والعنصرية. والحساسية الدينية بين الأوروبيين والمهاجرين. فساد منطق «الغيتو»: «نحن. وهم». كافأ المديرون والسماسرة اليهود أنفسهم بأرباح المصارف. نشل السمسار والمرابي برنارد مادوف وحده 65 مليار دولار. ويأمل في أن يرد المال لأصحابه، بعد قضاء مدة سجنه (150 عاما). عوّم أوباما مصارف «وول ستريت» الكبرى، بالاستدانة من دافعي الضرائب المفلسين. واكتفت أوروبا بتقبل التعازي بسمسارها الإنجليزي جون مينيارد كينز. وتجاهلت وصيته للدولة الحانية، بالإنفاق بسخاء. وعدم الخوف من عجز الميزانية. رفعت المستشارة أنغيلا ميركل (قاطرة أوروبا الألمانية) قميص التقشف. وفرضته على عشاء الإغريق. والسلاف. واللاتين. فقد بذّروا يورو الاتحاد الأوروبي. أصاب التقشف سخاء الدولة الأوروبية. فتقلصت تقديماتها وخدماتها الاجتماعية. وأطالت عمر موظفيها ليستمروا مجانا في خدمتها. وأضافت عربها ومسلميها إلى «غيتو» العاطلين عن العمل. ازدهر الحرمان الاجتماعي في الضواحي وأحزمة البؤس. فتصاعد إدمان العنف الديني. لا المرجعية الدينية لجمت طرشان العنف. ولا الحوار بين الأديان استأصله. ولا عولمة التعاون الأمني والمخابراتي بين النظام العربي وأوروبا قطع الطريق على الهجرة المعاكسة من «غيتو» الحرمان، إلى إمارات ودول الإدمان. من قال إن النظام العربي لا يفكر؟ في مواجهة صعود التزمت والعنف الديني، يطالب النظام العربي بتجديد الخطاب الديني. فهل يمكن ذلك، من دون تجديد الخطاب الإعلامي؟ لم يعد أهل التسامح والتزمت يقرؤون الصحف الورقية. فقد قطع ألسنتها سيف الرقابة الرسمية والذاتية. بات «القرص» التلفزيوني المطل من «الغيتو» ينقل من التلفزيونات والفضائيات جرعات هائلة من إسلام الشعائر (الطقوس) وفتاوى أئمة العنف. وتزوِّد مواقع الوصل الاجتماعي على الإنترنت شباب «الغيتو» بأصول التدريب. والتسليح. والتجييش، وكيفية الالتحاق بـ«داعش». و«جبهة النصرة». وحزب الله. لا تجديد للخطاب الديني من دون تجديد الخطاب العلماني. انحدرت «شارلي إيبدو» بحرية التعبير إلى لغة الشارع! أين علماء. ومفكرو السياسة. والاجتماع. والفلسفة؟ فقد صاغوا ثقافة فرنسا وفكرها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. هل يمكن تجديد الخطاب الديني والإعلامي، من دون إضاءة «لمبة» في الخطاب التسويقي لرجال المال والأعمال الذين يتبرعون بسخاء للجمعيات الدينية «الخيرية»؟ فتنقل التبرعات بأمانة إلى خلايا التنظيمات النائمة والمتحركة، في «غيتو» عرب أوروبا. تنتشر المساجد بمآذن وبلا مآذن في «الغيتو» العربي. هناك 2500 مسجد في فرنسا. كل مسجد يحتاج إلى مكتبة. ونادٍ ثقافي. وصالة رياضية، لتهويه «الغيتو» بثقافة تعددية إنسانية. تصدر إسرائيل سلعها الاقتصادية إلى أوروبا. يستطيع الاتحاد الأوروبي، إذا شاء، مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي وتجارة المستوطنات السوداء. فيفرض حل الدولتين. ويخفف من عنجهية السلاح الإسرائيلي. بل يستطيع النظام المغاربي أيضا التخفيف، من عشوائية اليمين الديني والصهيوني. هناك عشرات ألوف الإسرائيليين الذين ما زالوا يحملون الجنسيات المغاربية. ويساهمون في تصدير سلع الاقتصادات المغاربية إلى الأسواق الأوروبية. قضى التقشف الأوروبي على المشروع الاقتصادي، لتشغيل الأيدي العاملة الأوروبية والعربية. فهل يمكن تجديد الخطاب الديني والإعلامي، من دون تجديد خطاب الدبلوماسية العربية المخملية؟ أوروبا بحاجة إلى دبلوماسية شعبية عربية تعايش مجتمعات «الغيتو». فقد سبق للأنظمة المغاربية أن أنشأت، قبل التقشف، «وداديات» للدعم المادي. وللتواصل مع الجاليات المغاربية في أوروبا. تسألني، عزيزي القارئ، وأين موقعك أنت في «غيتو» عرب أوروبا؟ لم أحمل الجنسية الفرنسية بعد 38 سنة من الإقامة المتواصلة. أعتقد أن الكاتب الذي يناقش قضايا أمته العربية، يجب أن لا يحمل جنسية أجنبية. لكن أعتبر فرنسا وطني الثاني. فقد منحتني ديمقراطيتها حرية العمل. والتعبير. والكتابة. والحماية. ويمكن أن يضمني يوما ترابها. أتابع أوروبا. لكن نادرا ما أكتب عنها. أترك الكتابة عنها للزميل العزيز باسم الجسر. فهي أسهل. وآمن عنده، من الكتابة عن بلده لبنان. أقيم في عمارة شبيهة بعمارة بان كي مون الدولية. فهي تضم الجيران الفرنسيين. وعربا. ويهودا. ودوليين. أقلد العم مون. فألقي التحية على أمم وشعوب العمارة. إن اجتاح جيش نتنياهو أطفال غزة، رد يهود العمارة تحية الصباح بأحسن منها. إن قتل محمد ميراح ثلاثة أطفال يهود وحاخام المدرسة، حجب يهود العمارة عني تحية المساء.