الحياة ظلم في أكثرها، قلَّة إنصاف في غالبها، وما بقي قليل. للثلاثة مظاهر وآيات متنوِّعة ومختلفة وأكثرها من العبث تصحيحه. قال لي صديق فرنسي مرة، إن جَدَّ أبيه كان ضابطا مع نابليون في معركة أوسترليتز، لكن دوره لم يُعرف إلاَّ من خلال الوسام المعلَّق على جدار المنزل. لا أحد يعرف اسما من أوسترليتز سوى اسم نابليون. آلاف المجلِّين والميتين والجرحى واسم منتصر واحد: نابليون، الذي خسر نحو 60 معركة أخرى ظلَّت من دون أسماء. لا نعرف عن قناة السويس سوى أن الفرنسي فرديناند دو لسبس فكَّر فيها وأشرف على شقِّها. لكن من هم المهندسون الماهرون الذين درسوا الأعماق؟ ما هي أسماء عشرة مصريين من أصل 120 ألفا قضوا في شق القناة؟ أين دُوِّنت أسماء مئات الآلاف الذين ماتوا يبنون هرم خوفو؟ لا نعرف سوى اسم واحد. العم خوفو. يفضِّل التاريخ الاختصار. الألوف والملايين يذهبون هباء وسدى خلف أسماء مثل نبوخذ نصر وقورش وقيصر وهتلر وآيزنهاور، أو تحت عنوان واحد مثل السلاجقة والمماليك والترك والفرس. تبقى الفرديَّة لأصحابها في الفن والأدب والعلوم. ابن سينا ودافنشي وهوميروس والمتنبي وشكسبير وفليمنغ، مخترع البنسلين. هناك دوستوفيسكي واحد وتشيخوف جميع الأسماء. كان يقال: إن الإنسان يحب أن يرى اسمه مكتوبا ولو في دليل الهاتف. ذات مرة أذِعت تعليقا من «إذاعة الشرق» في باريس عن الرئيس صائب سلام. والتقيته بعد أشهر في جنيف، فقال في ذكائه ودبلوماسيته: يا فلان، أنا ممنون عاطفتك، لكن الإنسان ميَّال بطبعه إلى تفضيل الحبر على الأثير. فغدا قد يقال: «الشرق الأوسط» لكن هل عمرك قرأت أحدا يقول: «قالت إذاعة لندن»؟ كنَّا في مرحلة مجموعة من عرب باريس لهم تعليقات شبه يومية في إذاعاتها العربية: غسان سلامة في «مونت كارلو»، وحمادي الصيد في «إذاعة الشرق»، وأيضا الزميل العزيز بلال الحسن. كان لهم جمهور واسع. وعندما وقع انقلاب عسكري على ميخائيل غورباتشوف في موسكو، أيَّده ناصر الدين النشاشيبي في «إذاعة الشرق» ووقف منه نبيل خوري على الحياد، وتوقعت له الفشل، وبعد ثلاثة أيام اتصل بي مصرفي عربي قائلا: «كلام الهواء يذهب مع الهواء. لو كانت المنافسة حبرا لأعلن فوزك».