قد يبدو ما يدعى «بالأدب العالمي» واضح الحضور والوسائل والغايات، فهو أدب تساهم فيه جميع الشعوب، يتعامل معه جمع هائل من المترجمين المختصين، ويذهب إلى جمهور واسع متعدد الثقافات. وهو قبل هذا وذاك قريب من ثقافة إنسانية متنوعة، تميل إلى التجانس في عصر «العولمة الجديدة»، التي تتجاوز الحدود واللغات المختلفة، وتتطلع إلى «مستهلك كوني» في المجالات جميعاً ومنها، لزوماً، الإبداع الأدبي. غير أن الأمر أكثر تعقيداً، بكثير، مما يبدو عليه. عام 1827، وفي مدينة فايمار الألمانية، وخلال حديث مع صديقه إيكرمان، جاء غوته، مؤلف كتاب «فاوست»، بمصطلح: «الأدب العالمي»، الذي سمع به عام 1813. بعد ذلك، وفي عام 1847، سيعود ماركس وانجلس في كتابهما «البيان الشيوعي»، إلى هذا المصطلح، في انتظار الأميركي ريتشارد غرين، الذي سيأخذ به مرة ثالثة في شيكاغو عام 1911. الالماني أوغست لودفيج شلوسر قال بالمصطلح عام 1773. منح الاستعمال المتواتر للتعبير الذي اعتنقه غوته، اعترافاً من جهات متعددة، وبدا معطى فرضته الازمنة الحديثة، الحالمة بإنسان «كوني» يكسر الحدود ويتخطى «الثقافات القومية». ومع ان في المصطلح نزعة تبشيرية مثقلة بالتفاؤل المشروع، فلا أحد لا يرغب بإنسانية موّحدة ، فإن في السياق التاريخي الذي أطلقه ما يحيل على تفاؤل لا ضرورة له، يقوِّض سريعاً وهم «الأدب الإنساني الموّحد». فلم يكن ذلك «العالمي» المفترض إلا الجهود الأوروبية المتنوعة التي وحدت العالم، أي الكرة الأرضية التي غدت واضحة الأقاليم والحدود، وهو ما جعل «العالمي» مساوياً لـ «الغربي» واختصر الأدب العالمي في «الأدب الغربي». ولا غرابة في الأمر، طالما أن تسمية الجديد من حق من أنجزه بقدر ما أن قوة التسمية من قوة الطرف الذي يطلقها. لا تختلف دلالة «الأدب العالمي»، الذي لم يصبح عالمياً حتى اليوم، عن دلالة «الثقافة العالمية»، التي تنتجها قوى اقتصادية وسياسية عالمية، بعيداً من أمم تجتهد في إنتاج، ما يمكن إنتاجه، من الأدب الروائي والفن السينمائي والموسيقى، مصرحة، دائماً، بثقافة مهيمنة وبثقافات مهيمن عليها، أكان اجتهادها مثابراً، أو جسّد انطلاقات قلقة، تصعد تارة وتهمد بعد حين. في دراسات كتبها إيتين باليبار وبيير ماشريه، في سبعينات القرن الماضي، عنوانها «الأدب كتشكيلة إيديولوجية»، ذهب المؤلفان إلى اجتهاد يثير الفضول يقول: لم يصبح الأدب أدباً إلا مع مجيء المجتمع البرجوازي. نظر المؤلفان إلى الأدب كظاهرة اجتماعية، تنتجها، مدرسياً، أجهزة الدولة القومية، وتؤمن توزيعها مجتمعياً، بعيداً من منظور ساذج يختصر الأدب، أو ما يدعى بذلك، على جملة من الروايات والقصص القصيرة ودواوين الشعر، وينظر إليها «كإبداعات مفردة»، مستقلة عن إنتاجها واستهلاكها المجتمعيْين. قرأ المؤلفان الأدب في البنية الثقافية الاجتماعية التي لا تنفصل عن بنى أخرى، وقارباها في علاقتها بتكوين مجتمع وطني موحّد. ارتبط «الأدب العالمي» بالقوى الحديثة التي غزت العالم ووحدته، وأعلنت عن فعلها التاريخي بروايات كثيرة، فكتب فورستر «الطريق إلى الهند»، وجوزيف كونراد «قلب الظلام» محدثاً عن أفريقيا وبؤسها وثرواتها، واستدعى بلزاك، تخيلياً، «رحلة إلى بالي»، وسجّل فلوبير «مذكراته عن مصر». في الرواية الأوروبية ومراجعها الجغرافية المستعمرة ما يعيد إلينا مفهومي سمير أمين عن «المركز والأطراف» و «التطور اللامتكافئ»، إذ ما يسجله الأوروبي روائياً، لن يصل إليه «الإنسان التابع» إلا بعد زمن، فليس في رصيده الثقافي ما يوقظ «رواية نائمة»، ولا في رصيده اللغوي ما يسمح بترجمة مستريحة لرواية تنتمي إلى فضاء ثقافي آخر. في كتاب واسع الصفحات (308 صفحة)، عالج الفرنسي جيروم ديفيد، في كتابه «أطياف غوته» دلالة «الأدب العالمي»، مواجهاً التفاؤل الظاهري بإيضاحات كثيرة. فقد أراد غوته بمصطلحه السعيد أن ينقد «الأدب القومي» الضيق، وأن يستعيض عن مفردات «الأمة»، الشعب و «اللغة القومية» بمفهوم «الإنسانية»، الذي كان عزيزاً على الفكر التنويري، وأن يؤكد أهمية القيم الإنسانية الكونية، التي تحض على الحوار والتبادل الثقافي ودور الترجمة في تقصير المسافة الثقافية بين الشعوب. وبهذا المعنى، وكما أكّد مؤلف الكتاب، فإن «الأدب العالمي» مقولة تاريخية أفقها المستقبل، فهي ليست ما هي قائم إنما هي ما يجب أن يكون، أي أنها ظاهرة - سيرورة أو أنها «مشروع» يستمد من الحاضر بعض عناصره ، ولا يصبح «ملموساً» إلا في المستقبل، حين يصبح لجميع الشعوب آدابها القومية - العالمية. وهذه رغبة تلامس «المدينة الفاضلة، ذلك أن إنتاج الأدب «عملية تعلّم» تخترقها تجارب متواترة. يفصح مفهوم الأدب - السيرورة، في تصوره الإنساني «الغائي» عن أمرين: ليست آداب الشعوب متساوية، ولا يمكنها أن تكون متساوية، بسبب «اختلاف التجارب» المرتبطة بحقب تاريخية مختلفة. بيد أن هذا الاختلاف، وهنا الأمر الثاني، لا يعني أن بعض الشعوب أكثر ارتقاء، على المستوى العقلي، من شعوب أخرى. شيء يذكر بما قال به كلود ليفي ستروس، في منتصف القرن العشرين، حين رفض الفرق بين «البدائي» و «المتقدم»، واعتبر أن لكل شعب نمطاً من الحياة يأتلف مع حاجاته. يمكن أن يضاء المعنى بالرجوع إلى سلسلة من الكلمات، تختلف دلالاتها من ثقافة إلى أخرى: العالم، الكون، المنطقة، الجماعة، التي تفترض، وهي تلامس «العالمي»، التبادل والتشابك والحوار والاعتراف المتبادل. ولهذا تحدث ادوارد سعيد عن «الدنيوي» وعن تعددية الآداب والثقافات، راجعاً إلى الإيطالي فيكو، الذي آمن بالكائن الإنساني، ودعى إلى تطوير «إبداع الأطفال»، قبل نقد المنجزات الجاهزة. هل الرواية العربية عالمية وتندرج في الأدب العالمي؟ شيء تقررّه الإمكانيات، القائمة في هذه الرواية، وهي مبدعة ومتنوعة وواسعة، لا النقاد الذين ينطلقون من «أسطورة العالمي»، مغتبطين بنظريات نقدية عالمية، من دون أن تكون ما توحي به، ذلك أن القومي والتاريخ الثقافي يحايثان العالمي، ويعيدان تعريفه. قدّم جيروم ديفيد مادة أدبية واسعة، استفادت من فالتر بنيامين وإريك أورباخ ولوكاش وفرانكو موريتي، لكنه دحض أولاً الأحكام البسيطة الجاهزة، التي تعتقد أن مجرد القول «بالعالمي» يصنعه، وأن هذا العالمي المفترض قدوة ومثال.