--> --> في هذه الصفحة، نبحر أسبوعيًا مع كاتبنا الرشيق، نجيب الزامل، مستدعيًا يومياته، التي يلخصها لقراء (اليوم) في سبع تجارب ذهنية وفكرية، يثري بها الأفق السياسي والفلسفي والتاريخي والجغرافي والثقافي. إنها تجربة يتحمّلها الزامل وربما نتحمّلها نحن بإسقاطاتها، وتداعياتها وخلفياتها، حتى لا يكون في العقل «شيءٌ من حتى». اليومُ الأول: لقد تزوجتَ امرأة يسأل طالب العلوم الشرعية أحمد المترف عن ما جاء في الأدبيات الشرعية عن المعرفة والفضل والمروءة، وهل لها معنى شرعي غير المعنى المتعارف عليه؟ أجيب الحبيب أحمد بقولي دوما اني لست عالما شرعيا، ولكن بما أنك سألت فجوابي سيكون معتمدا على ما أقرؤه في مراجع الشريعة، وسأدخل اللغة التي أدعي بها فهما يعطيني ثقة أكبر. أ- المعرفة: العرفان أو المعرفة كلاهما مصدر للفعل عرف، ويظن كثيرون أن العرفانية من قاموس الصوفية، وخصوصا صوفية الزوايا، وهذا غير صحيح فهي المعرفة بمطلقها، ومن معانيها إدراك الشيء إدراكا لا خفاء فيه طبعا من المفهوم اللغوي والشرعي وليس العقلي المنطقي الذي داخ به أهل الكلام- كقوله تعالى: يعرفونه كما يعرفون أبناءهم والمعرفة هنا كاملة لا خفاء فيها. وعلى ما يقول سبحانه: ولتعرفنّهم في لحْن القول. ومن معاني المعرفة معرفة سلوكية كأن تقول لمن أحسن إليك: أعرف جيدا حسن صنيعك. وتقول لمن اساء اليك: أعرف جيدا سوء ما عملت. وهذه معرفة كلية، ولكن هل ستأخذ موقفا تجاه ذلك، هنا معرفة ظنية غير كاملة. ب- الفضل- الفضل هو زيادة الخير. ومنه قوله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم. الفضل له أوجه معدودة، مثلا أن تجد عاملا أمامك ولم يتقدم لك بطلب الحاجة، ومددت له مالا فهو فضل. وأن تقدم من ضروب الصداقة فوق معنى الصداقة المتعارف عليه، وفوق ما يتوقعه صديق من صديق فهو فضل. وبرأيي شيء آخر أدعيه بمعرفة شعورية وليست دامغة وهو أن تحفظ للضعيف حقه كاملا فذلك من الفضل، وأن تدع زوجتك حرة بمالها لا تقربه وتصرف عليها فوقه مع أن هذا من تعاليم الشرع ولكن تطبيقك له هو فضل. وأذكر أن قريبا شكا لأمي مازحا أن زوجته تعنفه، فقالت له على الفور: النساءُ لا يغلبن إلا كريماً فاضلا. لأنه في الحقيقة كان بإمكانه أن يعنّفها، وترفّع أن يعمل معها ذلك فهو فضل. ج- المروءة: برأيي هي تمام الأخلاق، بل من تمام الإنسانية خصوصا أنها تأتي من كلمة مرء أي الإنسان. وفي حديث علي بن أبي طالب رضي اللهُ عنه: أن رجلا قال له لما تزوج فاطمة رضي الله عنها: لقد تزوجتَ امرأة يريد أنها امرأة كاملة، ولم يقل مثلا إنها امرأة عن رجل أو حتى ألف رجل، فمن المروءة إكمال صفة الإنسانية بالسواء للمرأة كما للرجُل. اليوم الثاني: المعزومة بدلتي، وليس أنا وهو أيضا إجابة لسؤال الأخت أروى حمادة السيد من مصر: أنت بتحب تقول القصص وأنا مفتونة بشخصية الامبراطورة جوزفين، فهل تحكي قصة عنها وأرجو ألا أكون سمعت عنها من قبل؟. الجواب: ههههه، طيب أنا أيش عرفني إن كنت يا أروى سمعتِ عنها من قبل ولا لأه؟ إبْقِي قولي لي بعد ما تقرئي القصة اللي هحكيها لك. ولكن دعوني أعترف لكم أن استدعاء القصة أسعفه ما حصل لي مؤخرا في مناسبة كبيرة كانت لي شراكة فيها، وجلست على كرسي بالأمام مكتوب عليه اسمي، ثم جاء شابٌ مشرفٌ في الحفل، وأمرني بتغيير الكرسي فهو محجوز للشخصيات، وغادرت الحفل لأني عرفت أن الشابَّ، الذي لم يسألني من أكون ولا اسمي، طردني من الكرسي فقط لأني لا أرتدي بشتاً، وكأن الاحترام للبشت وليس لمن يلبسه.. أو حتى لا يلبسه. وهي ظاهرة عامة للأسف. المهم نرجع للست جوزفين. جوزفين زوجة نابليون الأول كانت امرأة سطحية جدا مغرمة بالمظاهر والحفلات والاتيكيت والتفاخر، ولكنها كانت مهابة الجانب لغرورها الصلف وحدة تعاملها، ولأنها زوجة الأمبراطور نابليون. في يوم أقامت حفلا فارها في قصرها بباريس، وتقاطر أعالي القوم بمنتهى القيافة والازياء الفخمة المترفة، وكان من المدعوين قائدُ الجيش، الذي وجد نفسه متأخراً، فألهب ظهرَ الخيل ليصل في الوقت المناسب ببزته العسكرية.. ولما وصل تنهبت له جوزفين وقالت له: ألا تستحي على وجهك؟! أتأتي لحفلي الأنيق البالغ الشياكة بهذه الملابس العفنة؟! هيا ارجع والبس بدلة سهرة تليق بي قبل أن تليق بك. فعاد الرجلُ كسيراً محرجاً خجلا، وقد اهتزت شخصيته أمام المعازيم رافعي الأنوف. ولما عاد للحفل بكامل قيافته فرحت به جوزفين قدمته بفخار للضيوف الأبَّهَة. وعلى مائدة العشاء حيث تجمع الضيوف الأنيقون، طلب قائد الجيش الكلمة.. فقام بكل هدوء وانحنى بأدب للجميع، ثم أخذ صحن شوربة أمامه ودلقه على ملابسه الأنيقة، ثم قال: هل تعرفون لماذا صببتُ الحساءَ على بدلتي، لأني اكتشفتُ أني كما أنتم تماما، لم أُدْع لشخصي ولكن لبدلتي، لذا فهذه الشوربة لبدلتي بما أنها هي المعزومة، وليست لي!. انحنى، ثم انتصب مغادرا القاعة بجلال. لما علم نابليون ما حدث طلق جوزفين، وقهرها أكثر أنه تزوج غريمتها الأولى ماري لويز. وزي ما قلت لك يا أروي، إبقي قولي لي لو كنت سمعت القصة! اليوم الثالث: تأمّل: وزيرٌ حكيم لدى أحد ملوك أسبانيا، أهانه مرة رجلٌ بألفاظ دنيئة أمام الملك.. فغضب الملكُ انتصاراً لوزيره، وقال له: اذهب أنت بنفسك، واقطع لسان هذا الذي أهانك الآن فورا. وفعلا أخذ الوزيرُ الحكيم الرجلَ الذي أهانه معه، ولكن فوجئ الرجلُ المعتدي بسوء الالفاظ أن الوزيرَ عامله بلطف ورقة كبيرتين، وأخبره أنه لن ينفذ قرار الملك، وأنه ربما يملك عذرا أو سببا في خصومته، فنزل الرجل فجأة لقدميه يقبلهما والوزير يمنعه. ثم إنه تناهى للملك أن الوزير لم ينفذ أمره، فاستدعاه مندهشا وقال له: لماذا لم تنفذ حكمي في قطع لسان الرجل؟ فرد عليه الوزير باسما: بل فعلتُ يا مولاي! لقد قطعتُ لسانه سيئ الألفاظ، وركّبْت له لسانا جديدا حلو الألفاظ. شاع بيننا مواجهة الغضب بالغضب، كمواجهة النارِ بالنار، وننتقم كرها بكره.. ونجيب الصياحَ بصياحٍ أعلى واشد. وهذا ما نفعله دوما في أوار حرب لا تنتهي، سواء أكنا أفرادا، أم رؤساء دول نعبر عن غضبنا بإشعال الحروب. والغريبة أن المنطق قريب لا يقبل جدلا ومع ذلك لا ننتبه له، أو أننا لا نريد.. أرأيت أننا نطفئ حرارة النار ببرودة الماء. وأنه يجب أن نهدئ الموجَ الكاسحَ من الغضب بهدوء يمتص قوة الموجة ويرخيها، ثم يقودها ناعمة متمايلة للساحل. إن الغضبَ مولّدٌ للكره، ومشعلٌ لغرائز الحرب والصراع والانتقام، بل إن المفجع هم ضحايا الغاضبين، ألم تسمعوا عن الأب الذي في غيبة غضب قتل ابنه لأنه خرب أثاثا جديدا.. وبقي نادما حزينا حتى أصابه بعقله مخالطة. والمفجع أيضا أن الغضب يتمادى ليصل للإشباع والهدوء، في المرات الأولى يطفئه علو الصوت والشتم والسب، ثم يتطور فلا يطفئه إلا التعدي بالعنف والضرب.. ثم يوغل في ثمن الهدوء. جرب أن تعيش مخاطبا الناس مهما كان شعورك بصوت خفيض، ونبرة لطيفة، ومعان واعية، ولطف يقابل الحدة.. أضمن لك بإذن الله حياةً رغيدة. اليوم الرابع: خدم عشرين عاما بإخلاص، ومكافأته سيجار رخيص من الطرف التي اذكرها من المكافآت التي لا ترقى أبدا لطبيعة العمل المخلص أو التضحية، أن خادما كان يُضرب به المثل في إخلاصه وخدمته المتفانية للملك الإنجليزي إدوارد الثامن، واسمه والتر مونكتون حتى أنه أنقذ حياته يوم كان وليا للعهد أكثر من مرة، غير أساطير رُويَت عن دفاعه عن القصر وتضحياته ومحبته وولائه الذي لم يسبقه فيه أحد. بعد خدمة عشرين عاما متواصلة مرض الخادم الملكي مونكتون وأنهيت خدمته. ثم شاع أن الملك سيقيم له حفلَ وداع مع هدية، وصار الناس داخل القصر يتحدثون عن قيمة الهدية التي سيمنحها الملك، وأنها لابد أن تكون سنيّة ملكية ثمينة.. وهكذا تحدثت الصحف عن حجم ونوع الهدية التي يستحقها عامل نادر.. في يوم الحفل فاجأ الملكُ الجمعَ بأنه أهدى خادمه المخلص علبة من السيجار الرخيص، هذا والرجل مريض بالرئة ولا يدخن أصلا.. بل لما قرأ اسمه الذي حُفر على الصندوق الخشبي وجد أن الملك نسي اسمه وحُفر اسم خاطئ. أورد هذه القصة لأقول أيضا إن شباب هذه الأمة يملأون سماء البلاد والخليج وحتى العالم العربي بالعمل التطوعي، واقول لكبار المسئولين دوما إن الولاء يأتي لما نخدمه لا لمن أو ما يخدمنا.. كل ما تعمل عليه وتخدمه تخلص له بولاء وانتماء.. فكافأنا شبابنا بتراخيص جمعياتٍ لا تأتي، حتى أن أصغر دولة خليجية تتعدانا في عدد الجمعيات. إنه ذاك الصندوق البخس.. وفُهـِمَت جهودُ شبابنا مثل اسم الخادم الملكي المخلص.. خطأً. اليوم الخامس: من الشعر الأجنبي أترجمه بتصرف: Before the child is born, Anxious prayers ascend to heaven, The young mother depends on God, To nurture the life shes been given. When the mother hears the first cry, The tiny child claims her heart, A bond that cannot be broken, Deep passionate love from the start. قبل أن يولـَد الطفلُ صلواتٌ متلهّفةٌ تصعدُ للسماء.. صلواتُ الأمِّ الصغيرةِ تدعو ربَّها بأن يرعى الوليد وعندما تصلُ لسمعِها صرخةُ الوليدِ الأولى يسلبُ قلبـَها الصغيرُ، برباط حبٍّ لا يُفـَل حبٌ عميقٌ خالصٌ صافٍ من البدءِ اليوم السادس: قصة لقلبك: نعم، أنت تستطيع أن تغير الكون! قرأ الفتى كتاب تاريخ مختصر للزمن للفيزيائي البريطاني ستيفن هوكنج، وتعجب من جبروت ضخامة الكون، وأن كوكبنا يكاد يكون شيئا مهملا لا يُرى في متاهة الفضاء الشاسع. وسأل أباه: ابي، إن كانت الأرض ليست شيئا ذا بال في هذا الكون بل لا تعني شيئا قياسا للمفازة الكونية الهائلة، فنحن إذن لا شيء، ولا نستطيع أن نؤثر على هذا الكون.. نحن مخلوقات اقل من تافهة بالنسبة للكون. فقال له أبوه: تصور لو أنك في صحراء الربع الخالي الممتدة بسكون الزمن من ملايين السنين، وتصور أنك أخذت بملقط صغير حبة ترابه فقط من الأعداد التي لا تحصى من حبات الرمل في الربع الخالي، فماذا يصير؟ هز الفتى كتفيه وقال: لا أدري ما الذي يصير، وما علاقته بسؤالي؟ رد الأب: انظر يا بني، إذا أخذت حبة رمل واحدة من صحراء الربع الخالي ألا تنقص حبات الرمل بها واحدة؟ قال الفتى: صحيح؟ قال الأبُ: إذن أنت غيرتَ في صحراء الربع الخالي، وبما أن الربع الخالي في الأرض، فقد غيرتَ في الأرض.. وبما أنك غيرت في الأرض، فقد غيرت في المجموعة الشمسية، فغيرت في المجرة، فغيرت في المجرات، فغيرت بالكون.. في الليل والفتى يرى النجوم في السماء ضحك وهو يؤشر لها: أنا أستطيع أغير بك ايتها النجوم. العبرة: لا عمل في الكون لا قيمة له، مهما تضاءل! اليوم السابع: الخلق العظيم كوكبنا الأرض لا يصل إليه إلا نصفٌ فقط من مليار من الطاقة الشمسية المشعة.. تصور! تقريبا لا شيء. ولكن هذه الطاقة في أيام قليلة فقط تنتج من الطاقة ما يعادل كمية حرق كل طاقة النفط، والفحم والغاز من كل المخزون الأرضي!.