ما يثير الانتباه في مناقشات مجلس الشورى للوثيقة السكانية التي نشرت صحيفة الجزيرة يومي الثلاثاء والأربعاء (2,1 -3-1436هـ) تقريراً عنها، هو ذلك البعد الشاسع بين موقفين حول ما ورد بالوثيقة بشأن المباعدة بين الولادات والصحة الإنجابية. الموقف الأول (وعبّر عنه ستة من أعضاء المجلس من الرجال وعضوة واحدة من النساء) ينبذ فكرة المباعدة بين الولادات ومصطلح الصحة الإنجابية. ما يثير الانتباه في مناقشات مجلس الشورى للوثيقة السكانية التي نشرت وقد علّل الأعضاء الكرام هذا الموقف بأسباب تنطلق من خلفيات دينية واجتماعية وأمنية، ملخصها أن هذا فيه تدمير للأخلاق وهدم لنظام الأسرة، وتبديد للطبيعة النسائية، وتسويق لقيم الحضارة المعاصرة المخالفة للدين والقيم والعادات، إذ يشرّع للممنوع مثل العلاقات غير الشرعية وتحديد النسل، ويضيق على المشروع كالزواج والحفاظ على النسل، وأن أصل الوثيقة مبنيٌّ على توصية من (كيسنجر) عام 1974 تهدف للتخطيط العائلي وتحديد النسل وتشريع الإجهاض. كما أن المملكة ستواجه تحديات خطيرة من النواحي الأمنية والتنموية - في حالة خفض معدل الخصوبة الذي شهد بالفعل انخفاضاً من سبعة مواليد في عام 1394هـ إلى ثلاثة مواليد عام 1431هـ. ومن هذه التحديات وجود ثمانية ملايين عامل أجنبي، ودول طامعة في بلادنا مما يوجب الإعداد لحماية حدود المملكة. لذا يجب زيادة الثروة البشرية من خلال رفع معدل الخصوبة وكثرة الإنجاب، فالمملكة لديها موارد مالية كبيرة ومساحات شاسعة. وأما الموقف الثاني (وعبّر عنه ستُّ عضوات وعضوان من الرجال - وهذا في حد ذاته له دلالته، من حيث أن النساء أدرى وأحرص من الرجال فيما يتعلق بشؤونهن!)، فإنه يحبذ فكرة المباعدة بين الولادات ومصطلح الصحة الإنجابية. وتتضمن آراء هذا الفريق تفنيداً لحجج الفريق الأول، وتؤكد أن الوثيقة الحكومية لا تريد خفض عدد السكان وإنما تنظيمه حفاظاً على صحة الأم من الإرهاق الجسدي والنفسي ومن الأمراض الكثيرة التي يسبّبها عدم تنظيم فترات الحمل، وكذلك من خطر الوفاة في أثناء الولادة، وأن التكاثر لا يغني إذا لم يكن هناك خطط، فالاستمرار في النمو السكاني مطلوب، ولكن بالتوازن مع الموارد والخدمات المتاحة. والحقيقة أنه مهما بلغ الاختلاف في الآراء والتباعد في المواقف حول القضية، فإن المناقشة الحرة المفتوحة واحترام رأي الآخر المختلف هو الأسلوب الصحيح الذي أصبح مجلس الشورى نموذجاً مثالياً لانتهاجه، حيث لا يلجأ فيه طرف إلى إيذاء طرف آخر بالتسفيه والتصنيف والهمز واللمز والتشكيك في النوايا - أي تغليب المساس الشخصي على الطرح الموضوعي، مثلما هو ملاحظ - مع الأسف- في الكثير مما يدوّن في شبكات التواصل الاجتماعي. لست هنا بصدد مناقشة الوثيقة السكانية، بل المهم هو ما أثير حول مسألة المباعدة بين الولادات والصحة الإنجابية والدعوة لكثرة الإنجاب أو تنظيمه. هذا الموضوع - وإن كان بحثه يدور الآن تحت قبة مجلس الشورى - فهو قابل لأن يحلق في الفضاء العام، لأنه يهمّ كل فرد في المجتمع. وبصرف النظر عن المسميات الاصطلاحية التي وردت في الوثيقة، فإن الموضوع يدور حول مفهوم تنظيم النسل وصحة الأسرة. ومعلوم أن تنظيم النسل ليس كتحديده. فوسائل تحديد النسل نعرفها من الصين، حيث لا يُسمح بإنجاب أكثر من طفل واحد (رفع العدد مؤخراً إلى طفلين)، ومن الهند من خلال التعقيم الذي لا يتمّ بعده إنجاب - وكل ذلك للحد من النموّ السكاني المفرط. أما التنظيم فإنه لا يستبعد الإنجاب، بل يباعد بين أوقاته، لمصلحة الأم والطفل ولمصلحة المجتمع. فمن ناحية سيكون بإمكان المرأة الراغبة في الأطفال أن تنجب - بمشيئة الله- سبعة أطفال خلال سن الإنجاب (عشرون عاماً تقريباً)، عندما تختار الحد الأدنى لمدة التباعد - أي ثلاث سنوات بما فيها مدة الحمل (كما وضح ذلك في مداخلته أ. د. عدنان البار)، أو أربعة أطفال عندما تختار الحد الأقصى، وهو خمس سنوات. وعلى هذا المنوال سيحافظ النموّ السكاني على معدل لا يقل عن 2%، ومن ثَمّ فإنه لا خوف من انخفاض عدد السكان، بل الأمل قويٌّ في إنجاب أطفال أصحاء تحت رعاية أمهات يتمتعن بصحة نفسية وبدنية، وفي هذا مصلحة أيضاً للمجتمع وخيرٌ لتنمية الوطن، و(المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف). وتشجيع الرضاعة الطبيعية مهمٌّ لصحة الطفل ونموه الجسماني والنفسي، لكن المباعدة المرغوبة تتطلب وسائل أخرى إضافية، معروفة ومستخدمة منذ عشرات السنين. أما الصحة الإنجابية فهي لا تشرّع ولا تشترط تشريع شيء يخالف الدين والقيم الأخلاقية، وإنما هي مفهوم صحي محايد لا يُطبَّق - آليّاً - وفق ما توصى به مؤتمرات أو منظمات دولية، بل بما يوافق الدين والقم ومصلحة المجتمع في كل بلد- أي يؤخذ منه الصالح ويترك الطالح. فالعناية بالصحة الإنجابية لها تأثير إيجابي على صحة الأم والأسرة كلها، إذ إنها تشمل الرعاية الصحية المنتظمة للأم قبل وفي أثناء الحمل وعند الولادة وبعدها، وتشمل أيضاً العناية بالطفل، بما في ذلك الكشف المبكر عن أي أمراض وراثية أو ولادية - على سبيل المثال فحص ما قبل الزواج (الزواج الصحي- كما تسميه وزارة الصحة) الذي قررته الدولة منذ عام 1425هـ. وكذلك تشمل مخاطر الزواج المبكر - وخاصة الزواج من القاصرات - لما يترتب عليه من عواقب صحية ونفسية واجتماعية معروفة. كما تشمل معالجة العقم الذي قد يترتب عليه فشل الزواج والوحدة والتعاسة. ولا شك في صواب التحفظات التي أثيرت حول التوسع في مفهوم الصحة الإنجابية بإدخال مبادئ لا تقرها الشريعة مثل العلاقات المحرمة أو تشجيع الإجهاض و(تحديد) النسل، ويجب النص على رفض مثل هذه الأجزاء في أي توصيات، لكن علينا أن لا نبالغ في التحفظ فنبُثّ الرعب من الصحة الإنجابية بشبهات هي منها بريئة، لأننا إن بالغنا في ذلك نكون كمن يرفض تناول دواء لعلاج مرضه من شدّة خوفه من التحذيرات المذكورة في النشرة المرفقة بالدواء، والتي في أغلبها لا تحدث أو نادرة الحدوث، ويمكن اكتشافها والتخلص منها إن حدثت. ذلك أن المجتمع المسلم المتعلم الذي يأخذ الأمور بعقلانية حارس على قيمه، والدولة فيه متيقظة، والأنظمة تضبط إيقاع الحياة الاجتماعية. أما المخاوف المتعلقة بتأثير العمالة الأجنبية فلا أظن أن لمعدل الخصوبة أو عدد السكان علاقة بذلك، إذ إن تضخم أعداد هذه العمالة وما ينجم عنه من تأثير يعود إلى عوامل معروفة تتمثل في كثرة أعمال الإنشاء والتشغيل والنظافة والخدمة المنزلية، وهي أعمال لا يرغب السعوديون فى احترافها، وفي كثرة عمالة الكفالات السائبة المتراكمة، وفي التستر الذي أفسحت له المجال كثرة أعداد المحلات والورش والبقالات بشكل يفوق الحاجة الفعلية، وأخيراً في العمالة المخالفة والمتخلفة. وما دامت هذه العوامل قائمة، فالتأثير حاصل - سواءً كَثُر الإنجاب أو قلّ.