لا شك أن فلاديمير بوتين يعرف مصلحة روسيا أكثر منّا جميعًا. ولا شك أن لديه، مثل أي رئيس دولة في العالم، دائرة خاصة تبعث إليه كل يوم بتقارير عن أحوال الدولة وحال العالم. الأرباح والخسائر، المكاسب المادية والمكاسب المعنوية، واحتمالات المستقبل. معنويًا، لا شك أن بوتين ازدادت شعبيته في الداخل كما أقر باراك أوباما نفسه. هل تعيش الأمم بـ«المعنويات»؟ إذا افترضنا ذلك، فإن القوة الروسية الكبرى تقلق الغرب في كل مكان. ويعدِّد تقرير رسمي للقيادة الأوروبية 40 حادثة ذات طابع عسكري في الأشهر الثمانية الماضية، من البحر الأسود إلى بحر البلطيق، إلى شمال الأطلسي، إلى المحيط الهادي: أربع مرات تعرضت الطائرات السويدية والأميركية للمضايقة من الطائرات الروسية في الأجواء الدولية. ومرة قامت الطائرات الروسية بعملية قصف «افتراضية» لطائرات دنماركية. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، قامت المقاتلات الروسية بغارة وهمية في بحر اللابرادور. وتحدثت إستونيا عن 6 خروقات روسية لأجوائها في الفترة نفسها... إلخ. تشكّل كل هذه الأحداث في مجموعها عودة إلى الحرب الباردة التي أعلن جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشوف نهايتها في مثل هذا الشهر عام 1989، ولها علامتان رئيسيتان، حرب أوكرانيا وحرب سوريا. ويقول أوباما إن العقوبات لم تنجح في زحزحة الموقف الروسي، هنا أو هناك. في المقابل، الروبل الروسي في شبه انهيار مثل أيام الاتحاد السوفياتي. ووزير المال أنطون سيلوانوف يقول إن العقوبات وهبوط أسعار النفط سوف يكبد الاقتصاد الروسي خسائر قدرها 140 مليار دولار هذا العام. لا بدَّ أن لدولة كبرى مثل روسيا مكانتها وكرامتها الدولية. وبالتالي، لها سياسة مستقلة لا تخضع لرؤية الغرب ولا لرغباته. لكن الذي يدفع ثمن الحرب الباردة أكثر من الروس والأميركيين هم الشعوب المطحونة بين المعسكرين مرة أخرى، وبصورة خاصة في سوريا وأوكرانيا، حيث ضم بوتين القسم المعروف بالقرم منها. وفي سوريا، تقف إيران في حلف معلن إلى جانب موسكو، لكنها أيضا تجري مفاوضات معلنة مع الغرب، لا يعرف أحد أين وكيف سوف تنتهي، وهل سوف يكون لروسيا مكاسب فيها أم خسائر؟ لقد اهتزت صورة بوتين الرابح والمتحدي. والمضايقات «العسكرية» تليق بدولة لا تملك شيئًا آخر سوى هذا الأسلوب والوسائل مثل كوريا الشمالية. وتعيش دول مثل بلاد البلطيق، حيث هناك جاليات روسية الجذور مثل أوكرانيا، في حالة ذعر، من أن يحرك بوتين هذه المسألة في مواجهته مع الغرب. وعندما تبحث الدول عن انتصارات عبثية لا يعود معروفًا ماذا سوف تفعل. فخلال حرب لبنان، اضطر رونالد ريغان إلى سحب حاملة الطائرات الكبرى، نيوجيرسي، من المياه اللبنانية، فكان أن غطى الهزيمة بـ«هجوم ناجح» على جزيرة غرينادا. لم يربح الحرب الباردة الماضية أحد، وخسرتها شعوب كثيرة، وليس فقط الشيوعية التي انهارت حول العالم. وهذه حرب تخسرها شعوب أخرى غير السويديين والدنماركيين، الذين تطاردهم المقاتلات والبوارج الروسية ويطاردونها جوًا وبحرًا.