أرسلت أسلي أيدينتاسباس، الكاتبة التركية الشابة ذات الأعصاب الفولاذية والمعرفة الواعية بسياسة الشرق الأوسط، رسالة من إسطنبول إلى مدونة مؤسسة «هوفر» التي من المقرر أن تنشرها في وقت لاحق من الشهر الحالي. ينبئ عنوان الرسالة عن مضمونها: «أين ذهب الأميركيون؟ من الذي دعا الروس إلى العودة؟». لقد أنجز جون كيري وسيرغي لافروف المهمة، بعد أن أوجدت مساعيهما الدبلوماسية، المليئة بالتحولات والمفاجآت والتقلب الأميركي المذهل، مخرجا من مأزق حرج لبطلين دراميين في هذه المسرحية السورية، هما باراك أوباما وبشار الأسد. بالنسبة لأوباما، جاءت مهلة التأجيل بعد أن أدت به جميع الخيارات إلى نفق مظلم. اذ انه هدد بقصف سوريا من دون أن يكون عازما على ذلك. وأراد أن يورط الكونغرس في اتخاذ القرار بأمر الضرب، ولكن هزيمته بدت مؤكدة في الكونغرس. ومع انه ظل يبحث عن حلفاء خارجيين لكنه كان دائما وحيدا، وكان يجد التهرب المعتاد داخل مجالس منظمة حلف شمال الأطلسي. تدور حرب مروعة في سوريا منذ ثلاثين شهرا، وأخيرا اتخذ أوباما موقفه، ووضع خطا أحمر بسبب أحداث عنف ضارية وقعت في يوم واحد، في 21 أغسطس (آب)، عندما ضربت صواريخ تحمل غاز الأعصاب (السارين) ضواحي الغوطة في دمشق. لم يفلح التجاهل الحميد لسوريا: فإما أن تنفذ ضربة «صغيرة للغاية» ضد سوريا - بحسب تصريحات كيري - أو يكون هناك تراجع ذليل. حينها تقدم الروس بعرض مخرج لأوباما كان متحمسا لقبوله بشدة. كان أوباماتجسيداً للمرونة. اذ كانت الخطوات مفزعة، لكنه يستطيع التعايش مع ذلك. وكما قال، فإنه كان مهتما بالنتائج أكثر من نقاط الأداء. لندع المعارضين يعلنوا أن فلاديمير بوتين تلاعب به: سيقول مؤيدوه إن التراجع دليل على قدرته على استيعاب معلومات جديدة. نجا الأسد أيضا. لم يكن الديكتاتور السوري متأكدا مما سيحدث له ولنظامه في مواجهة ضربات الولايات المتحدة. صحيح كانت هناك تأكيدات من كيري بشأن ضربة «صغيرة للغاية» تجهزها الإدارة الأميركية ضده، وكانت هناك أيضا رسائل لا حصر لها من مسؤولين أميركيين بأن النظام ذاته لن يكون هدفا للهجمة، وأن الدبلوماسية الأميركية لا تثق في معارضة النظام، بل وترى أن أكثر معارضيه قدرة على النجاح جهاديون يمكنهم أن يفرضوا حكما ظلاميا إذا سقط النظام.. كان كل ذلك موجودا لكنه كان محل نظر، ولكن الأسد يعلم المصير الذي لحق بصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا. اتسم هذان الديكتاتوران بالتجمل والتكبر في بلديهما، وظلا يحذران من الجحيم الذي سوف يجتاح العالم العربي إذا تعرضا للهجوم، ومن الكوارث والمغبة التي ستنتظر القوات الأميركية. كان صدام حسين في أكبر دولة مجاورة وخرج في خنوع من جحر ليلقى مصيره عند حبل المشنقة بعد ذلك بثلاث سنوات. أما نهاية القذافي فكانت بشعة للغاية، ولم تحمه التهديدات والأموال وفرق المرتزقة والأنفاق السرية. لم يكن الأسد، الطاغية المتحدر من الطائفة العلوية التي لا تحظى باحترام كبير، والذي ألحق الدمار والقتل ببلاده، يرغب في تجربة حظه في مواجهة صواريخ الولايات المتحدة. قد تشجع هجمات تمتد لعدة أيام الدمشقيين من السنة، الذين ما زالوا حتى الآن ساكنين في مواجهة القمع العلوي. قد تتملك الحشود شجاعتها وتقتحم مخبأه، وقد يتصدع صرح الطغيان الذي بناه والده. في العالم الذي حكمه، أو ما بقي منه، يمكن أن تعد مهلة الإرجاء التي عرضها الروس انتصارا. وبذلك كان النظام، الذي (وفقا لتصريحاته) لا يمتلك سلاحا كيماويا ولا يستخدمه، مستعدا للتوقيع على اقتراح أميركي روسي بالتفتيش على هذا السلاح ثم تدميره. اشترى الأسد أثمن سلعة: الوقت. لقد نجا مع الانتصارات الأولى للمعارضة. وأنقذته مساعدات من إيران، ومن حزب الله، من هزيمة مؤكدة. قد يقدم تراجع الأميركيين تذكيرا للمعارضة بأن قوة الأسد لم تنتهِ، وأن الغرب لن ينقذ الثوار أو يسلحهم. لذلك في سرعة خاطفة، أصبح الأسد على استعداد للتوقيع على اتفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيماوية والتصديق عليها. وأعلن أنه سوف يفتح الآن مكانا مغلقا بإحكام أمام المفتشين الدوليين. لا داعي لأن يقلقه هذا التعهد: فهو رهان معقول على أن الأزمة انتهت، وأن الأميركيين سيسأمون من شؤون سوريا. فليترك المفتشين الأجانب ينقبون في أقفاص الدجاج في البلاد، أو يفتشون في القرى العلوية النائية حيث يمكن تخزين وتخبئة الأسلحة. سيكون الأسد قد نجا ليقاتل في يوم آخر. لقد أضاف أوباما إلى هذه الأزمة رغبة في اكتساب قدر جيد من التخمين المتأني والتهكم. كان رهانه على أن البلاد تغيرت وأن المفاهيم القديمة عن «المصداقية» الأميركية لم تعد طاغية. لقد أعلن مرارا أنه انتُخب من أجل إنهاء الحروب وليس إشعالها. ويبدو أنه أشار ضمنا إلى أن عادة إنقاذ الشعوب المأزومة انتهت في الفكر والممارسة الأميركية. خفت نجم أوباما بعد هذه الأزمة، ولكن لم يصب تابعوه المخلصون بالتعب. إنهم يرون الحكمة والحصافة في التراجع. ويكفي بالنسبة لهم أن أوباما ليس جورج بوش الابن، وأن سوريا لم تعد على وشك أن تصبح عبئا أميركيا. * كبير زملاء في معهد هوفر في جامعة ستانفوردومؤلف كتاب «التمرد السوري» * ينشر بالاتفاق مع بلومبرغ فيو