لو قامت أي جهة علمية أو بحثية بإجراء استفتاء شعبي عن شعور الناس تجاه الوحدة الوطنية، لما أنجزتْ أي نتيجة تُذكر، ذلك لأن الناس في الظروف العادية لا تجد ما يدفعها للاستجابة لمثل هذه الاستفتاءات أو البحوث، ولا تعبر بالتالي عمّا يجيش في صدورها بشكل دقيق، غير أن مصيبة الأحساء التي أراد منها منفذوها ومن يقف خلفهم اشعال نار الفتنة الطائفية، وتمزيق الوحدة الوطنية، كانت بمثابة استفتاء شعبي تلقائي، لم يقف خلفه أحد، ولم يوجهه أحد، وإنما جاء عفو الخاطر ليعكس شعور مفردات كل هذا الشعب من بلدات الأحساء إلى قرى تبوك، ومن أرياف عسير إلى حدود الخفجي، فقد توالت ردود الأفعال من كل حدب وصوب لا لتستنكر تلك الجريمة النكراء وحسب، وإنما لتتلقى العزاء في شهداء تلك الجريمة من الطرفين من المغدورين من أبناء بلدة الدالوة ومن رجال الأمن البواسل الذين ضحوا بأنفسهم فداء للوطن ووحدته، وانتصارا لدماء أولئك الأبرياء. لم يكن رد الفعل قوليا فقط، بحيث يُمكن أن يكون هنالك من يُفسره على أنه مجرد تعاطف لحظي، وإنما جاء على هيئة قوافل شعبية توافدت للأحساء من كل جهات المملكة الأربع للمشاركة في تشييع وتأبين المغدورين، وتقبل العزاء فيهم، لم يكن عزاء أو مأتما سنيا أو شيعيا، بل كان بحق عزاءً وطنيا بكل معنى الكلمة، أيضا لم تقتصر المشاهد على تلك الوفود التي غذّتْ السير باتجاه الأحساء حيث الحدث، وإنما جاءت القوافل من بلدات الأحساء إلى حائل والقصيم للغرض ذاته، لتؤدي واجب العزاء في شهداء الواجب، في مشهد لا يتوافر إلا من خلال إرادة عفوية لا تعرف لباسا غير لباس المواطنة، ولا تتحدث إلا بلغة واحدة، وهي لغة الوحدة الوطنية التي ارتفعت كل الحناجر تردد باتجاهها: (اخوان سنة وشيعة.. هذا الوطن ما نبيعه)، وهو المشهد الذي ألجم تلك النفوس المريضة، وأخرس ألسنتها، عندما أدركت أن الرهان على وحدة الوطن وإمكانية اختراقه أنه رهان خاسر، وهو الذي امتدت جذوره في الأعماق، لتؤكد أن الوحدة التي رسخها الملك المؤسس طيب الله ثراه، لم تكن مبنية على الفراغ، أو على ظرف سياسي طارئ، لأنه أسسها على خيار هذا الشعب بكل طوائفه وشرائحه، لتكون وحدة مسار ومصير عصية على الاختراق، وغير قابلة للابتزاز، لأنها تؤمن بالمصير المشترك، والمستقبل المشترك. لقد كان استفتاءً غير مسبوق، حتى وإن حركته مصيبة موجعة، إلا أن عفويته وشعبيته، عكستْ مدى تلاحم أبناء هذه الأمة، وقدرتهم على توظيف أي فاجعة في إعلان ما بداخلهم من مشاعر المواطنة الصادقة التي لم يُحركها شعار، ولم تقف خلفها حملة علاقات عامة، فهي لا تحتاج إلى من يقودها أو يُحركها، يكفي فقط أن تشعر أنها وضعتْ أمام امتحان ما، لتفصح عن ذاتها، وعن عمق تجذرها في أعماق هذه الأرض وإنسانها الأبي، وقدرة ابناء هذه الوحدة على تفويت الفرصة على الأعداء مهما ارتفع صخب المضللين والناعقين، وكل من يُحاول أن يدق اسفين الخصومة بين أبناء الجسد الواحد، والوطن الواحد، ليقدموا للعالم أجمع، وفي مقدمتهم الأعداء والمتربصون أبلغ العظات وأعظم العبر في لحظة سخونة الدم.. وليؤكدوا أن وحدتهم لا تقبل المساس حتى وإن سال على جوانبها الدم. إنه بحق الاستفتاء الذي لم ينظمه أحد، بل نظمه الضمير الوطني الناصع وحسب، على استمارة العفوية، وبإحصائيات رأي العين بكل ما فيها من ثراء الصورة وصدقها.