القاهرة: محمد رضا هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها إنشاء مسابقة خاصة بالسينما العربية في إطار مهرجان القاهرة السينمائي. سابقا، ما كانت الأفلام العربية تعرض في مواجهة الاشتراكات السينمائية الدولية وكثيرا ما كانت تخسر فرص الفوز. كذلك، درجت العادة في بعض الدورات السابقة من هذا المهرجان على إقامة بانوراما للسينما العربية بلا جوائز. هذه المرة وتحت قيادة الناقد الزميل سمير فريد، اختار مهرجان القاهرة أن يولي السينما العربية مكانة أفضل. أن يؤسس لها مسابقة مستقلة بجائزتين. أولى لأفضل فيلم وثانية لأفضل إسهام فني قد تذهب إلى مخرج أو إلى كاتب أو أي من عناصر العمل الرئيسية. هذا بالطبع إلى جانب الأفلام العربية المتسابقة في البرنامج الرئيسي. كيف عالجت المهرجانات العربية الأفلام العربية؟ أمر يتنوع من مهرجان إلى آخر. هي غالبا محدودة الظهور في مهرجان مراكش المنطلق قريبا، ودائمة الحضور في مهرجان قرطاج الذي ينطلق خلال أيام قليلة. بالنسبة لمهرجان أبوظبي، قام بإدماجها ضمن المسابقات الرسمية (روائية وعالمية) ثم اشتقاق جوائز عربية من تلك المسابقات، مما منح الأفلام العربية فرصا لم تكن لتنالها فيما لو تنافست جنبا إلى جنب الأفلام الأجنبية، التي عادة ما تأتي أكثر إبهارا وإتقانا بالنسبة لعناصرها الفنية والتقنية والإنتاجية. أما مهرجان دبي، فهو بيت السينما العربية الأول حيث منحت لها مسابقة خاصة بها منذ إنشاء هذا المهرجان وإلى اليوم، إلى جانب «ليالي عربية» الذي يجمع بين طياته أفلاما عدة خارج المسابقة. * أساليب متباينة * بين القاهرة ودبي وأبوظبي، تطرح السينما العربية معظم ما لديها من أفلام تستحق العرض. بين هذه المناسبات كلها، يتم تقديم بانوراما شاملة لما كان الإنتاج عليه في عام يلهث من رحلته. بين محطات هذه الرحلة كشف لما شغل بال المبدعين وما شكل اهتمام المخرجين وكيف استطاعت الأفلام حمل المضامين والتعبير عنها. في مسابقة القاهرة الرسمية هذه السنة فيلمان عربيان هما: الفلسطيني «عيون الحرامية» لنجوى نجار الذي تناولناه هنا سابقا، وهو يدور حول وضع لفلسطيني مزقت حياته سنوات السجن التي خرج منها باحثا عن بقايا أمسه. الفيلم الثاني هو «باب الوداع» الذي تناولناه أيضا في هذا المجال، وهو فيلم خاص لمخرج جديد اسمه كريم حنفي، أكثر خصوصية من أي فيلم آخر تم عرضه في أي مجال آخر. أما مسابقة «آفاق السينما العربية» فهي، بطبيعة تكوينها، لم تشمل سوى الأفلام العربية وهي «كان رفيقي» لأحمد خلف (الكويت)، و«القط» لإبراهيم البطوط (مصر)، و«شلاط تونس» لكوثر بن هنية (تونس)، و«الصوت الخفي» لكمال كمال (المغرب)، و«يوميات شهرزاد» لزينة دكاش (لبنان)، و«ذيب» لناجي أبو نوار (الأردن)، و«فلسطين ستيريو» لرشيد مشهراوي (فلسطين)، و«تمبوكتو» لعبد الرحمن سيساكو (موريتانيا). ولدواعي اشتراكي في عضوية لجنة التحكيم الخاصة بهذه المسابقة، لن أتمكن الآن من تناول هذه الأفلام على نحو نقدي. لكن، ما يمكن قوله إن 5 من هذه الأفلام هي من بين أفضل ما تم إنجازه في إطار السينما العربية في الـ12 شهرا الماضية. كذلك، يمكن القول إن الأساليب التي ينطلق منها المخرجون جميعا متباينة. أفضل هذه الأساليب هي تلك التي تمكن فيها المخرج من بلورة الكيفية التي يريد فيها طرح ما لديه. والخطأ الذي لا يزال يقع في الوسط الثقافي السينمائي هو قصور بعض النقاد عن تلقف الكيفية وحصر اهتمامهم في المضمون، فإذا بهذا الفيلم يطرح وبذلك الفيلم يعالج، أما هذا «فيكشف عن...»، وبذلك يتم اختزال كل خصال الفيلم إلى ماذا حكى، وما تضمن، وليس كيف تناول هذا المضمون وعبر بأدواته عن رؤيته له. * حياة امرأة * ما يمكن الحديث عنه، بالإضافة إلى ما تناولناه هنا من أفلام سابقا وهي «باب الوداع» و«عيون الحرامية» والكوميديا النوستالجية «زي عود الكبريت» لحسين الإمام (مصر)، هو تلك الأفلام التي وردت في قسم «عروض خاصة» التي شملت «من ألف إلى باء» لعلي مصطفى (الإمارات العربية المتحدة) و«مياه فضية» لأسامة محمد (سوريا) و«ديكور» لأحمد عبد الله (مصر). وهناك فيلم قصدنا مشاهدته بعنوان «حائط البطولات» للمصري محمد راضي الذي أخفق في الحصول على حق العرض عندما ثارت عليه، سنة 2005، جهات عسكرية، وجدت أن حقها من الحديث عن حرب أكتوبر (تشرين الأول) تم إغباطه. الفيلم بقي في العلب منذ ذلك الحين وإلى أن أتيح له العرض في هذا القسم. سبب عدم مشاهدته هو أن العروض، وعلى عكس ما وصل إلى الإدارة في بعض الأحيان، تتأخر. مع هذا الفيلم دام التأخير 37 دقيقة قبل أن يخرج هذا الناقد من الصالة باحثا عن عمل قد يعرض في وقته المحدد. في اليوم التالي، أخبرنا اثنان بأن نحو ربع ساعة أخرى مرت قبل أن يبدأ العرض. «ديكور» هو رابع روائي طويل للمخرج أحمد عبد الله (هناك فيلم آخر له بعنوان «18 يوم» لم يعرض بعد، حققه سنة 2011). ومن يراجع بعض هذه الأفلام (لم نر فيلمه الأول «هليوبوليس») يلحظ قدرا من اللاتوازن مع أرضية تجريبية جريئة وصلبة في الأساس. «ديكور» هو حالة من التناقض الناتج عن سيناريو لم يسبر غور الموضوع كما يجب. هو عن امرأة اسمها مها (حورية فرغلي) تعيش في عالمين؛ أحدهما حقيقي، والآخر خيالي. لا تعرف أيهما الواقع، وأيهما الوهم. تمشي بهما على نحو مزاو. فيما تبدو في الحياة الحقيقية هي امرأة متزوجة، منذ 7 أو 8 سنوات، بالرجل الطيب مصطفى (ماجد الكدواني، دائما جيد) ولديها ابنة منه. تلك الخيالية تضعها كمهندسة ديكور في فيلم يتم إخراجه (يلعب المخرج إبراهيم البطوط دور المخرج في مشاهد قليلة) وهي متزوجة بشريف (خالد أبو النجا) وتحبه. هي بين عالمين، وعلى نحو دائم تنتقل بينهما من دون أن يكون أحدهما كاملا. مها لا تعرف أي العالمين هو الحقيقي، كذلك لا يعرف المشاهد تحديدا. يمكن بالطبع التخمين، لكن السيناريو (لشيرين ومحمد دياب) يوغل في خلط الوقائع التي تجعل الحقيقة متوارية، وذلك إبرازا لحالة الضياع. فالغالب هو أنها المرأة المتزوجة التي تعمل مدرسة والتي تشعر بأن عائلتها (ممثلة بأمها هنا) هي التي دفعتها إلى حياة زوجية لا تريدها. هي تحب أفلام السينما المصرية البيضاء - السوداء القديمة، وهذا الحب يساعدها على الانتقال إلى العالم الآخر. ما يحدث على الشاشة أن هذا العالم الوهمي يأخذ حيزا جادا أكثر بقليل مما يجب. لا يعامل كلا وجود بل كافتراض مقبول، خصوصا أنه بعد حين يلتقي مصطفى وشريف، أي يلتقي الرجل الآتي من الحقيقة مع الرجل الآتي من الخيال لتبقى هي في الوسط. ما معنى ذلك؟ لا أعتقد أن هناك كثيرين من المشاهدين يستطيعون وضع الأصبع على نقطة الفصل، بينما يمضي الفيلم في الدمج، متجاوزا بذلك مرحلة الإيهام بوجود عالمين إلى مرحلة ضربهما بعضهما ببعض. قبل النهاية بنحو ثلث ساعة، نراها وهي في قمة حيرتها، تتعرض لحادثة قطار. سيارتها انطفأت عند السكة والقطار السريع قادم. فماذا بعد ذلك؟ لماذا لا تزال حية، وفي العالمين معا؟ كيف نجت؟ هل القطار وهم ثالث؟ هل تقع باقي الأحداث في الجنة مثلا؟ النهاية أثارت حماس المتابعين في الصالة: ينتهي الفيلم، فإذا بكل الدراما السابقة (على مدى نحو ساعتين) هو فيلم انتهى عرضه. أي إننا كنا نشاهد فيلما داخل الفيلم. هذا مثل سرد حكاية طويلة وفي نهايتها يفيق السارد من سباته فإذا بك أمام نكتة استغرق عرضها وقتا ثمينا. بتحويل الحكاية إلى مجرد فيلم داخل فيلم (بلقطة ملونة وحيدة في الثانية الأخيرة من الفيلم) يلغي الفيلم أهمية ما دار طوال ساعتيه. لم يعد هناك حاجة لبحث ما حدث وإلى أي عالم انتمت. هناك منوال رتيب في الساعة الأولى وأسرع منه قليلا في الساعة الثانية، لكن دخول الشخصية الرئيسة وخروجها بين الحالتين يزداد عرضة لكتابة وإخراج غير معنيين بوضع خط، ولو نحيف، بين العالمين، مما يجعل الفيلم، مثل هندسة صوته، عاما وباردا. * نضال بعيد * فيلم أسامة محمد «مياه فضية» هو تسجيلي (وليس وثائقيا) عن الوضع الماثل في سوريا عندما قام المخرج السوري بتحقيق فيلمه مباشرة قبل مهرجان «كان» الماضي عندما عرض الفيلم هناك. بعده، شاهد العالم فيلما تسجيليا آخر عن حمص هو «العودة إلى حمص» لطلال دركي. كون الفيلمين عن مدينة واحدة، وكونهما تسجيليين أيضا، يجعلهما قريبين وصالحين للمقارنة. في هذا الإطار، فإن فيلم أسامة محمد تركيبة تشترك فيها تكنولوجيا التواصل الإلكتروني وتكثفها اللقطات المأخوذة بكاميرات هاتفية والواصلة إلى المخرج في المدينة التي اختار أن يعيش فيها (باريس) عبر الإنترنت. النتيجة شيء مثل النضال من بعيد، وخصوصا أن «العودة إلى حمص» تم تصويره في حمص ذاتها تحت القصف وتحت القنص وبكاميرا فعلية تلتقط في ساعة ونصف الألم معيشا وليس مستوردا. إلى ذلك، نقل المقاومة المسلحة عندما كانت في أتونها الأول بعيدا عن التسييس والتطرف لاحقا، وبذلك عبر أكثر عن معاناة الناس العاديين وإشباعا لحاجة التعاطف مع الشعب في محنته الرهيبة ضد نظام أغلق الباب على نفسه. يوفر أسامة محمد في نحو نصف ساعة أولى الكثير من المشاهد التسجيلية حول كيف ولماذا انطلقت الثورة وكيف ووجهت. نرى عنف رجال النظام والإهانات غير الإنسانية التي يتلقاها من تم إلقاء القبض عليهم. في جزء ثان (وكل جزء مقسم إلى فصول وكل فصل بعنوان مختلف)، نتابع رابطا صوتيا بين المخرج وفتاة كردية اسمها سيماف. هو في باريس يتابع بقلق، وهي في حمص تعيش الحال المزري الذي ألم بها وبالحمصيين جميعا. إنها من يطلب منها المخرج لاحقا أن يصنع مما تسلمه من مواد مصورة (منها أو ممن سواها) فيلما تسجيليا يحمل المعاناة والألم وفواجع المأساة الحاضرة. في إحدى محطاته، يحاول «مياه فضية» أن يعكس معادلة متوازنة: تشكو الفتاة في واحدة من مراسلاتها من جور المتطرفين الذين استولوا على المدينة وتتساءل، على نحو مفهوم، ما إذا كانت الثورة دخلت نفقا طويلا يبعدها عما انطلقت من أجله. لكن هذه المشاهد قصيرة لا تخدش رسالة الفيلم الأصلية، ولو أنها تزيد من بعد المسافة بين الفيلم وأي تحليل سياسي ممكن. تبقيه، بكلمات أخرى، في نطاق التعبير الذاتي بعيدا عن السياسة وهذا مبرر بدوره. أهم ما في هذه المحاولة لا يمكن أن يكون حواره وجمل تعليقاته، بل الشكل الذي صاغ فيه المخرجان عملهما. إنه صادق، ولذلك هو مفجع. بصريا ممعن، وبصرياته منظمة بفن تجريبي، وأحيانا بفن متأثر من أسلوب غودار في الخط بين الصور والكلمات. لكن، إذا ما كان الفيلم، وعلى نحو طبيعي، بلا قصة، فإنه ليس بلا تعليق، يحاول أن يلعب دورا فلسفيا وثقافيا. وضع المخرجان عبارات من نوع «أنظر إلى البيت والبيت ينظر لي»، و«تتنفسني الحياة» و«هل أنا هنا أو أنا هناك». القليل من ذلك نافع، لكن ما استخدم منه هنا كثير، وفي أحيان متوالية ينفصل عما يود المرء سماعه. يمنع الفيلم من تحليله الواقع وينصرف لبلورة تلك الوجدانيات التي مكانها فيلم آخر. وكنا تناولنا في تقارير مهرجان أبوظبي كل ما يمكن أن يقال عن «من ألف إلى باء» - الفيلم الإماراتي الطويل الثاني للمخرج علي مصطفى. هو أيضا يتعاطى والوضع السوري ولو عابرا عندما يدخل الأصدقاء الثلاثة الأراضي السورية فيتعرضون للاعتقال مرتين، الأولى على يدي الجيش النظامي (بقيادة خالد أبو النجا الموجود في كل مكان هذه الأيام، إذ هو أيضا بطل الفيلم الفلسطيني «عيون الحرامية») والثانية على أيدي قوات من المعارضة. علي مصطفى أراد فيلما خفيفا، وكان الأجدى أن يكون إما أخف، حتى ينجو من لائمة مساسه بأمور جوهرية في رحلة أبطاله، وإما أكثر ثقلا لكي يأتي الرصد لمشكلات هذا الجزء من العالم أكثر وجعا. لكنه في نهاية المطاف فيلم ينجح في غايته الأولى وهي أن يكون جماهيريا. نصيحة أحد الذين شاهدوه لأهل الفيلم: «هذا فيلم كريسماس جيد. سارعوا بعرضه».