في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، تتعانق الأضداد فرغم حرب الإبادة ومقتل الآلاف نتيجة استعمال السلاح الكيميائي، يصر الناجون على التمسك بالمقاومة والحياة، تؤكد ذلك الأعراس التي ينظمها شباب المنطقة من وقتلآخرمعلنة أن إرادة الحياة أقوى من الموت المتربص بهم. هنا يُزف الشاب هيثم أبو عبدو، ليس شهيدا -كما جرت العادة طوال العامين الماضيين- ولكن عريسا يلتقي بعروسه التي كادت مع عائلتها أن يكونوا قد سقطوا قتلىبالسلاح الكيمياوي قبل أسابيع، ولكنهم اليوم في عرس. في أجواء من البهجة والسرور، انطلق صوت زغرودة مبحوحة من حنجرة أم تشكر الله على نعمة الحياة التي أهداها لابنها وخطيبته. وخلف إناء كبير مملوء بالأرز والبازلاء واللحم، وهو الطعام المتعارف عليه في أعراس الريف الدمشقي، جلس هيثم وبيده ملعقة كبيرة يطهو بنفسه طعام العرس ليقدمه للضيوف، تلك كانت طريقته للتعبير عن مدى سعادته وامتنانه أنه اليوم هنا. يتحدث هيثم، وهو مسعف ينتمي إلى لواء الشام أحد ألوية الجيش الحر بالريف الدمشقي، وهو سارح بعينين متعبتين في ذلك الكابوس الذي مر به ودفعه لتعجيل زواجه، قائلا "كنت في بيتي نائماً, استيقظت على وقع الصراخ, كيماوي.. كيماوي ففهمت أن الحي المستهدف قريب جدا من المكان الذي تعيش فيه خطيبتي مع عائلتها.. ركضت كالمجنون وأنا ألهث والموت حولي وأناس يفترشون الشوارع يصارعون الرعب والموت". العريس هيثميطهو الطعام للضيوف (الجزيرة) هول الكيميائي للمرة الأولى وهو يتذكر تلك الوجوه التي لم يعد يرى بعضها وقد رحلت مع الراحلين،يقولالعريس وهو يروي تفاصيلالبحث عن خطيبته "وجدتها.. مع عائلتها أحياء، وكان الاختناق قد بلغ بي كل مبلغ ولكن رؤيتهم جعلتني أحيّا وأتنفس رغم الاختناق، وهنا كان قراري السريع بالمغادرة فهناك من ينتظر مني المساعدة". في العرس بدأ الضيوف بالتوارد وصحون الأرز بالبازلاء تفرش بها المائدة البسيطة.. وفرحة مكسورة إلا أنها حقيقية تنبعث من النظرات ومحاولات الأصدقاء التعبير عن الفرح بالرقص تارة والمزاح والهتاف بأغان ثورية تارة أخرى. لم يعد الزواج في ذلك المكان يحمل الأعباء والطقوس الشكلية نفسها ضمن الوضع الاقتصادي والأمني الذي يحياه الأهالي، ولذا بات الشبان يقبلون على الزواج بما تيسر لهم وكثير من الفتيات تقبل بالقليل. واقع جديدعبرت عنه والدة العريس بقولها "لم يعد يعنينا شيئا سوى أن نفرح بما تبقى لنا من ساعات في الحياة، ابني سيتزوج في بيت عمه الذي أصبح خارج المدينة، لم نشتر للعرس ملابس خاصة ولا أي شيء جديد، ما كان يدخره من مال دفعه كله ثمن الطعام، لم يعد شيء يهمنا من تلك التفاصيل، يكفي أننا لازلنا أحياء". يرقص هيثم مع أصدقائه، وكثير منهم يرفضون توجيه عدسة الكاميرا على وجوههم، فمعظمهم من عناصر الجيش الحر، ومازال بعضهم يدخل ويخرج إلى العاصمة مركز وجود النظام. العريس (يسار)معأحد أصدقائه خلال العرس(الجزيرة) الماء البارد ثم وصف ما حدث مع خطيبته وقد ودعها ليذهب إلى أداء واجبه كمسعف "كانت تبكي, وتناشدني وتناشد أمها ألا تسمح لي بالذهاب, إلا أنني خرجت، ووصلت إلى إحدى النقاط الطبية، أخذت أدوات الإسعاف واتجهت نحو مناطق القصف المباشرة, ولازالت كلماتها تصدح: عرسنا بعد 23 يوما،لاتمت". هناك حيث الجحيم والموت المتربص، يقول هيثم "بدأنا باقتحام البيوت لإخراج أهلها, استنشقت الغاز وفقدت الوعي وسقطت على الأرض, لأصحو بعد عدة ساعات وأنا مغطى بالماء البارد ولساني يلهج باسمها". يستمر العرس بينما يهمس العريس والدموع في عينيه "بشار سرق منا كل شيء لا أحد ممن حولي لا يعاني من الاكتئاب ومن آثار الغاز القاتل، لازلت أتعالج، مؤمن أني سأشفى وأسعد بزواجي وستستمر الحياة". من جهته، يقول عبد السلام،وهو صديق هيثم وجاره "تزوجت قبل يومين من أرملة أخي الذي سبق واستشهد قبل سنة، هي في مثل عمري لم تعد تهمنا الاعتبارات القديمة.. ماذا ستفعل آلاف الأرامل وليس هناك أي معيل لهم؟ وهل أترك ابن أخي للغريب؟". ويضيف مازحا "يجب أن نستفيد من الوقت المتبقي لنا ونحن أحياء قبل أن يعيد بشار الكرة ويضربنا".