كلما أمعنت القراءة فيما ينشر الآن في وسائل الإعلام العربية تحديداً، وما تزج به المطابع بأنواعها..، وجدت أن الأقلام قد ذهب بها حملتها مذهب المرحلة التي يعيشون.. وكما هي قد عجت بالكثير، وازدحمت بالكثير، وتداخل فيها الكثير.. وأصبحت فيها الغلبة للكثرة لا للصفوة، وللغبار لا للنسائم، وللجعجعة لا للطحين... وللقوالب لا للباب،.. وجدتهم قد تبعوها ومضوا على ما تمضي عليه.. إلا القلة النادرة.. هذه القلة النادرة، تلتقط من كل هذه الغوغاء ما انفلت في الزحمة بهدوئه، ومن الجعجعة بطحينه، ومن الخلط بتميزه، ومن الغلبة بقيمه، ومن الغبار بصفائه، ومن الكثرة بتفرّده.. هذه القلة غرباء أصحابها في زمن تسيست فيه حتى النوايا، واتجهت بنواياها حتى بوصلات الأفكار، وركبت اللغة من أجلها حصان موضوعاتها تطارد ما استطاعت في مضمارها.. ولم تعد هناك خيوط تفصل بين الكتّاب.. فالكل يخوضون في الكل الذي تشرق عليه الشمس من فوضى الشتات الذي تعيشه الدول العربية، وقد شاءت الربيع فأظلم عليها ليس الخريف بشحوبه، ويباسه، وصفرته، ووحشته، ولا الصيف بقيظه، وناره، ولسعه، بل ليل طويل انعدمت فيه رؤية البصيرة إلا من بقع تومض كما تومض تلك في مجال الرؤية حين يقيس الطبيب مدى الإبصار عند العليل.. ويسترجع القارئ ذلك الزمن الذي يجلس فيه للصحيفة والمجلة بمتعة ليقرأ الفكرة وإن كانت عابرة نحو قطة فارة في شارع تبحث في أوعية النفايات عن لقمة، فتشرق في ذهنه صورة أخرى مرفهة في دار ذي عرائش، ورياحين، وفرو، وكعك ليخرج من المقارنة بقيم المفارقة..، أو ذلك الذي استمع لهديل حمامة طليقة فقارنها بحاله في السجن، وخرج بمفارقة بين نواحها الطليقة تلك، وضحكه المأسور هو، وما أوحت به قصيدته للكاتبين جمالاً، المعبرين عن الأبعاد فيها.. وفي سواها.، من المبتكرين للإنسان فكرة، الصانعين له بما يقولون عالماً جميلاً، وحياة مشرقة ........و......... على مر أزمنة كانت فيها الكتابة بكل حالاتها، وفي أي وسائلها، وبأي قوالبها، وأجناسها لإثراء النفس..، ولتحريض المخيلة، ولرسم الحياة، ولوسمها بما تستحق لتجمل للبشر، وتحلو للمعاش..! لكن تغيّر الزمن وتغيّرت حاجات الناس فيه، ومعها تغيّر ما يعطي وإن كان حرفاً، وما يتلقى وإن كان صوتاً..! لكن الحقيقة، أن في المرحلة هذه التي نعيش، يتأسى القارئ فيها على الأفكار التي حوصرت بالأهداف، ووجهت للغايات، وخضعت لمقود الأحداث..، وركضت بالحروف تتشكل على غير هدى، فيها لغة الأغلبية من الكاتبين قد ركَّت، وضعفت، وفقدت جمالها، بمثل ما بهتت مضامينها، إذ نأت عن إمتاع الفكر، ومد النفوس، وبنائها باتجاه بوصلتها نحو الإنسان، وتكوينه العميق.. وأصبحت جعجعة في الغبار..!! كذلك يفعل المنجز المستقل عن الوسيلة الإعلامية ..، وغدا العطاء الفكري في كل مساحات التلقي، وأنواع الكتابة باهتاً في شتات.. غريباً في فقد..أو مفقوداً في غربة.. على وجه العموم ..، وإن وجد القليل الذي لا يقاوم السيل..!!