زمن الطفولة أبيض، وكل طفولة يتلفع زمنها بالبراءة والنقاء والطهر، لكن مع ذلك فإن زمن طفولتنا -أنا وأبناء جيلي- أكثر نقاء وطهرا، لأن زمننا كان خاليا من الاصطفاف أو التحزب. لقد كان زمننا زمن الجهل بالتقسيمات الطائفية والمذهبية التي قادت إلى الإقصاء والتخوين والتكفير، وقد خرجت من خلال ما يحدث الآن، مقارنة بما كنا عليه أيام الصبا، بنتيجة راسخة وهي: أن العلم ببعض المندثر في ملفات التاريخ جهل. أو لنقلب العبارة لنقول: إن الجهل ببعض المأثور نور وسلام. لا زلت أتذكر في مرحلة الطفولة أننا كنا ننام في ليالي صيف الرياض المقمرة في سطوح المنازل وكان هذا الفعل مأثوراً في جميع مناطق المملكة، لأن المدن لم تكبر بعد ولم تزدحم مما جعلها تحافظ على نقاء وبرودة لياليها الصيفية، هذا إلى جانب قلة وندرة استخدام المكيفات في ذلك الحين.. قبلها كانت المروحة اليدوية (المهفه) هي سيدة الجلسة في ظهريات الرياض، ثم أصبح المكيف الصحراوي لاحقاً هو بطل الساحة، ومعلوم أن القلة في ذلك الحين هي انعكاس للحالة الاقتصادية المتقشفة والبسيطة، فلم تكن القدرة المالية للأفراد ولا الطاقة الكهربائية المحدودة لتسمحا بأكثر من ذلك. في مرحلة الصبا كان انصرام الموسم الدراسي ومجيء العطلة الكبيرة هو إيذان بامتلاء بيتنا بالأحباب والأقارب الذين يزوروننا من خارج الرياض، ولم يكن الناس في ذلك الحين يقطنون الفنادق أو الشقق المفروشة، كما هو الحال الآن لعدم توفرها، وهي لم تتوفر لأن الحاجة لم تكن تقتضي وجودها، ولأنه كان من العرف الاجتماعي أن يسكن الزائرون القادمون إلى المدينة من خارجها عند من جاؤوا لزيارتهم، وكان مجيء هؤلاء الضيوف إيذانا بولائم متتابعة لهم من قبل الأقارب. لا أدري لماذا كلما قرأت خبراً أو سمعت حدثاً عن مدينة النجف والأضرحة والمراقد المقدسة، عادت بي الذاكرة إلى زمن الطفولة وتذكرت لمبات "النجف" التي تضيء الأسطح وما فيها من المراقد المكدسة.. هذه الكلمات مجرد تداع لا يقصد به الهمز واللمز، كما قد يظن البعض أو يتم تأويلها على غير مقصدها من تشابه في المفردة ليس إلا. كنت ذكرت أن النوم كان يتم في السطوح أو ما يعرف في حينها بـ"الطايه" وكانت المراقد والفرش التي ننسدح فوقها مكدسة فوق بعضها البعض فيما يسمى بيت الدرج، حيث تتولى النساء فرش هذه المراقد وكانت الأسطح ترش وتغسل بالماء لتخفيف رمضاء الشمس وهكذا فإن غبار "الطايه" يبرر الغسيلة! كانت والدتي -أطال الله في عمرها- هي التي تتولى العناية بهذه المراقد وهي التي تتولى فرشها منذ وقت مبكر حتى تتهيأ لها البرودة، وكانت تقوم –يرعاها الله- بتعطيرها وتطييبها بأزكى الروائح ثم تضع إلى جوار كل وسادة إبريقاً من الماء الزلال ثم "غضارة" يشرب منها الظامئ في ليالي الصيف المقمرة. كان النائم في "الطايه" يتوسد المطارح المفروشة ويلتحف السماء، وكان السطح على سعته هو ملاذ آل البيت وساكنيه كلهم وقد يحدث في وجود الضيوف أن يعمد آل البيت إلى نصب قطع القماش لعزل مراقد النساء عن مراقد الرجال. كان ذلك في عهد مضى عامر بالطهر والنقاء وبياض النوايا الصافية المتجردة من كل انحياز أو تحزب مذهبي.. كان ذلك في زمن لم تنبت فيه أسئلة على نحو: هل هذا شيعي.. أم سني؟ أو "هذا من وين"؟ أو "هذا وش يصير" أو "وش يرجع"؟ لست هنا في وارد أن أسكب العبرات على زمن مضى، فلكل زمان ميزاته وأفضلياته، ولا شك أن هذا الزمن بموجوداته ووفوراته الاقتصادية والصحية والتعليمية وغيرها أفضل وأكثر رخاء من زمن الشح والفاقة. لكنني انحاز إلى ما مضى تبعا لغياب الطائفية والتفرقة الاجتماعية التي كشرت عن أنيابها في هذا الزمن بما لا ينسجم طرديا مع نسبة تعلمنا وتحضرنا، بل على العكس يزداد الزمن تمدنا (وليس تحضرا) وتلقينا وليس تعلما أو تفقها.. ونزداد بالمقابل تعصبا وجهلا.