×
محافظة مكة المكرمة

التحقيق مع 4 متهمين بقتل شاب وإصابة والده بالطائف

صورة الخبر

(ما أجمل الذي حدث.. وما أجمل الذي لم يحدث أبداً.. لم يحدث إلا بداخل ذلك العالم الآخر الذي سأكتب فيه لأنني لم أشف بعد من اللغة، لم أنعتق من تلك الأحلام التي تنمو بداخل الأدب.. والأدب هو كل مالم يحدث! هو ذلك الخارج عن حدود المكان في فوضى تغمر الروح وتنعتق من خارطة الجسد وتضاريس الحقيقة.. هنا أكتب عن شيء من تلك الخيالات التي رأيتها ذات طفولة في المنامات، رأيت بأنني أمشي في ممرات كثيرة وطويلة وبصحبتي أناس أعرفهم وآخرون لا أعرفهم يحملون فوانيس تضيء المكان ثم نذهب جميعا إلى ذلك النور لنخلع كل أوهامنا ونعيش في كون واحد يوحد مانشعر به، يقودنا إلى الرائع من الجزء الأعمق الذي يسكن الإنسان.. هنا آخذهم معي إلى أمكنة لم نلتق بها.. فالحوار حدث بيننا حقيقة ولكن خارج حدود المكان.. فقط.. هنا. ألتقي بشخصيتين أدبيتين وأرتب لهما في سماء الكتابة مكانا نحلق فيه سويا دون أن يعرف أحدهما الآخر ومن سيتحدث معه! ومن سيسمعه ويرد عليه.. أرتب لهما موعدا غير معلن.. انه الخيال الذي نعيش فيه ونعشقه لأنه الأكثر صدقا دائما والقادر دائما على تجريدنا من تحيزنا أو من اختياراتنا.. هنا سنلتقي.. لنقول كل شيء..) اعتدت في كل صباح غائم أن أرتاد مقهى " literatarhaus " في هامبورغ لأكتب هناك كما يحلو للكتابة أن تذهب بي، دخلت المقهى.. ألقيت التحية على النادل الذي اعتاد على وجودي كما اعتاد على رائحة القهوة.. أختار ذات الطاولة في أقصى زاوية في الروح.. أضع أوراقي الكثيرة، أسحب القلم من حقيبتي المعلقة على ظهري.. أخلع قبعتي.. أقلب في تلك الأوراق كمن يحاول أن يجد فيها شيئا ضائعا، يتخلل ذلك الهدوء صوت الفناجين الفخارية والتي تصف بشكل متناسق، فيما القهوة تقول كلمتها الأخيرة في المكان.. ** القهوة سيدتي.. أرفع رأسي.. أجمع الأوراق المبعثرة أمامي لأترك مساحة فارغة للفنجان.. أزيح بعض مسوداتي القديمة وبعض الأوراق البيضاء التي تنتظر أن أشبعها من الحنين. يضع النادل القهوة يبتسم بلباقة وينصرف.. أمسك بالفنجان وأرتشف قهوتي بشغف.. صوت قادم من بعيد.. وكأنه يتحدث لآخر أيضا أعرفه.. أنظر إلى الخلف.. أبتسم أنهض وأقترب من تلك الطاولة.. ألقي التحية.. ثم أهمس. قلبان يتأرجحان بين الخسارات والأمل ورائحة الغياب: * *الروائي والسيناريو الأستاذ أمين صالح والشاعر الأستاذ علي الشرقاوي.. سعيدة برؤيتكما.. فأجمل المفاجآت تلك التي يرتب لها القدر دون موعد مسبق.. ينظر إليّ أمين صالح.. ويقول ببالغ اللطف.. عفوا.. أهلا بك. ولكن هل التقينا من قبل.!! عبير: بالتأكيد.. حدث ذلك اللقاء في مساحة ما بعيدة عن المكان.. أعني بأنني سيدة المكشوف التي التقيت من خلالها معك ومع أستاذي القدير "علي الشرقاوي "في حوار عبر صحيفتي الرياض.. ** ينهضا باحتفاء.. ليبادلاني التحية بحفاوة بعد أن يقول لي " علي ": أنت إذا تلك المحاورة.. * أشاركهما ذات الطاولة.. ليبدأ بيننا حديث الروح.. عبير: أحب أن أتردد على هذا المقهى حينما أزور " هامبورغ " لأكتب وأرتب بعض اللقاءات التي أجريها.. في المقهى أجد شيئا ما يشبهني، في المقهى نختار طاولة محايدة للغياب.. نختار هناك شيئا يبعدنا عن الحياة ويقربنا من ذواتنا.. لا أعرف.. وكأني أفتش في المقهى دائما عن ذاتي التي أرغب أن أعرفها جيدا.. خارج الكتابة أتحول لشخص أخرَق كثير الحماقات ولا يعوّل عليه أمين: المبدأ الفلسفي الأول في تعريف المرء لنفسه وتحديد هويته الشخصية نجده في هذه الوصية: إعرف نفسك. بالطبع، لا أحد يعرف. وربما لا يحاول أن يعرف. كأنه لغز أزلي بالغ الصعوبة والتعقيد، أو كأنه أمر عبثي لا حاجة للمرء بسبر غوره. ** في محاولة مني لتحريضه على البوح: إذاً.. هل تعرف من هو أمين صالح؟ أمين: لا أعرف عن أمين صالح غير هذا الجانب: إنه شخص يمارس الكتابة لأنه لا يجيد فعل أي شيء آخر، وخارج الكتابة يكون شخصاً أخرق، كثير الهفوات والحماقات، ولا يعوّل عليه. بين الوجوه العديدة، المألوفة وغير المألوفة، المقنّعة والمكشوفة، المبثوثة في أرجاء المقهى، أبحث عن وجهٍ صديقٍ، وجهٍ حبيبٍ تآلفت معه سنوات، وتحالفت مع تضاريسه وتقلباته وتحولاته، وإن يطلّ عليّ تطل الطمأنينة.. وأشعر اني في أمان. ** يرتشف "علي الشرقاوي" من فنجان الشاي قليلا.. يضعه على الطاولة ثم يقول: علي: أنا احد عشاق المقاهي الشعبية، تكونت علاقتي مع المقهى وأنا في الثامنة من عمري، حينما كنت اشتغل في الفترة الصيفية، في قهوة عمي في سوق المنامة، حاليا مكان مجمع يتيم أو يتيم سنتر، كنت أساعده على قدر استطاعتي في إيصال الشاي والشربت، إلى زبائن القهوة، في مكاتبهم، ومن ضمن هذه المكاتب، شركة كريمكنزي ومتجر كانو. القريبين من موقع القهوة. دخولي المقهى الآن كأنه العودة إلى مرحلة الطفولة، مرحلة الابتسامة الخالية من التصنع، مرحلة العلاقات الإنسانية البسيطة، مرحلة المرح وأنا أتنقل بين الكراسي، أو أقدم شربت أللومي ( مزيح الليمون والسكر والماء). عبير: ليس هناك أجمل من صدفة تجمع بينك وبين صديق في مكان عابر، تلتقيه وتتفاجأ به وكأنك تتفاجأ بسرب من العصافير تلقي بأفراخها بداخل قلبك.. أحب تلك المفاجآت التي تعيد ترتيب الوقت واليوم بداخلي.. تشعرني بالدهشة.. في مثل هذه اللقاءات غير المتوقعة لبعض الأشخاص الذين يعنون لنا الكثير في الحياة نقول الكثير.. ولكن ماذا يمكن أن نقول.. أظن بأن ذلك يعتمد على نوع اللقاء وأين هو ذلك الشخص من مراتب القلب والالتقاء الروحي.. أحب أن أنتقي عباراتي الأولى مع مثل هذا الشخص.. ما رأيك - أنت - أستاذ أمين.. أمين: أقول له: أهلاً بك إن جئت وعلى أطراف معطفك تتناثر أنداء السفر وجيوبك ملأى بحكايات طريّة، ومعا نتقاذف أخبار الأهل والأصحاب، ونخترع ما يسمح به الوقت من دعابات لا تُضحك غيرنا. لا أعرف عن حنينه وجنونه، لكن سيكون من الممتع أن أراه يطرّز اللحظات ببوحٍ مرصّع بالشعر، فيسمو وأسمو، ومعاً نحلم - بلا تخطيط مسبق - الحلم المشترك. ** يبتسم علي الشرقاوي لأمين صالح وكأنه يقرأ مايشعر به.. ويقول: علي: في القهوة التقيت بأشخاص ما زالوا حاضرين في ذاكرتي منذ أكثر من نصف قرن، ما زلت اذكر الشاب العماني من مدينة صور وهو يحدثني عن ثورة العمانيين ضد الاستعمار الانجليزي وكيف كان العمانيون يحاربون بشراسة من اجل تحرير أرضهم، في القهوة أتذكر كيف كان اليوم الأول لتوزيع مشروب الكنداراي بأصنافه المتعددة، والذي وزعت منه مئات الصناديق على الناس مجانا، في القهوة كنت أتذكر سيري في المساء، قاطعا الطريق للوصول إلى بيتنا في قلب فريج(حي الفاضل). ولكن كما تعرفين يا - عبير - إن كل شيء في هذه الدنيا عابر، الطفولة عابرة، والصبا عابر، والمراهقة عابرة، وكلنا عابرون في هذه المساحة القصيرة التي تدعى بالدنيا، أما عن الصدفة، فانا أرى ان هناك لا توجد أية صدفة، أنه القدر، القدر هو الذي يضعنا في مكان ما وزمان ما، من اجل أن نتعلم ونعود كأرواح إلى بيتنا الأول، القدر هو الذي يحرك ذراته لنتواصل أنا وأنت على هذه الشبكة والفضاء الافتراضي كما حدث سابقا رغم أننا لم نلتق وجها لوجه. ** أتناول قائمة المشروبات التي وضعت بشكل أنيق على الطاولة.. أمعن النظر فيها. ثم أقول: القائمة مكتظة بأنواع مختلفة من القهوة.. مممم.. ليس هناك أي خيار آخر. ** أنظر إلى أمين صالح.. أسأله كمن يحاول أن يشاكسه: كيف تحب أن تشرب قهوة أيامك؟ برائحة أو بدون رائحة؟ ينظر إليّ بذكاء.. يضع يده تحت ذقنه.. يصمت قليلا.. ثم يقول: أمين: القهوة ليست مشكلة. نشربها كيفما اتفق، وحسب المزاج. لكن كيف نشرب الحياة.. جرعة واحدة أم على دفعات؟ السؤال: هل لدينا الخيار؟ وأنا قادم في الطريق، تكوّن لدي هذا الانطباع المخيف: لم نعد نشمّ رائحة البراءة. صرنا نشم في الشوارع رائحة الضغينة. ثمة عداوة غير مبرّرة تحكم سلوك الناس. ثمة من يرمقك شزراً ويرشقك بالكراهية قبل أن يتيقن من نواياك تجاهه، بل حتى قبل أن توجه نحوه نظرتك. ثمة توحش لا تدرك سببه. هناك من يقود المساء من قرنيه. لهذا لا تبدو المساءات رائقة ومبتهجة كما كانت. ** أنظر إلى الشرقاوي.. عبير: وماذا عن علي الشرقاوي؟! علي: في الواقع، أرى ان علاقتي بالقهوة قليلة مقارنة بعلاقتي بالشاي / لذلك من الممكن أن يكون السؤال. كيف تحب أن تشرب شاي أيامك.. ** يرتفع صوته ضحكا.. ثم يسترسل.. شاي أيامي أنا من يصنعه، وأنا من يحضره، وأنا من يضع فيه من نوايا وأفكار وطموحات وأحلام، امزجه برؤاي الخاصة بي وبالكثير من المحبة، اخلطه دائما بمزيج هائل من الدعوات الصالحات لمن يشربه أو يرتشفه أو يشمه من بعيد. عبير: المحبة..المحبة. أهمس بها.. ** يسود صمت في المكان لا نسمع إلا أحاديث البعض تتسرب من الطاولات المجاورة.. ثم أتابع الحديث:.. كم حاولت مرارا أن أخلط المحبة بنوايا بيضاء.. كنت أضع فيها رؤياي أنا أيضا، ولكن.. دائما هناك حالة من النقصان تفسد تلك اللوحة بداخل القلب.. انها الخسارات التي تأتي بها الحياة لترميها في العمر وتمضي.. لا أعرف.. أهي الحياة حقا! أم ذلك الأمل الذي نتعلق به ثم يأخذنا إلى الخيبة.. تلك هي المعضلة، حينما تصر على أن تتفادى الخسارات.. ولكن عبثا.. وكأنها لا تحسن إلا أن تترقب خطواتك. أمين: الخسارات جزء من الحياة. عندما تعيش تربح (ربما القليل) وتخسر (ربما الكثير). لذلك الخسارة لا تشكل صدمة مهلكة، فقد اعتدنا عليها منذ الصغر. ليس بالأمل وحده نواجه الخسارة، بل أيضاً بالدعابة. وباليأس أحياناً. إذ يائساً تقول: أيها الفقد، لن تأخذ مني أكثر مما أخذتَ. أو كما قال نيتشه: الضربة التي لا تميتك، تمنحك القوة. هكذا، فيما نمضي عبر الدروب الوعرة لعمرٍ لا شيء فيه مضمون ومؤكد، نخسر فرصاً كثيرة كان بإمكاننا أن ننتهزها ونربح أو نسعد، نخسر صداقات، ونترك عند المنعطفات علاقات عاطفية غير مكتملة. في المقابل، هناك ما نناله، نكسبه، في ما يشبه التعويض. ومن قال ان الحياة منصفة وعادلة. علي: أما أنا.. فالخسارات لا اعرفها، ما يدعى بالخسارات. ادعوه بالتجارب، فكل ما لا يكون كاملا بالنسبة لي. ادعوه بتجربة لم تحصل على ما تستحقه من نجاح، بسبب نقص في مكان، أحاول أن أتفاداه في مرحلة تالية. عبير: لفرط خساراتي لم أعد أحاول أن أتفاداها.. كل شيء يأتي دفعة واحدة. ثم يذهب دفعة واحدة.. تتغير الأسماء والأماكن والأشخاص ومضمون الوجع واحد في كل مرة، ليس لدي قدرة على مجاراة سخف من يحاولون تسطيح الألم، فالإشكالية الكبيرة حينما يكون لديك رؤية عميقة لمفهوم ماحصل. وفي المقابل يسطح البعض ما تشعر به.. **ألف شالي الأزرق على عنقي كمن يستعد لحدث مهم ثم أرفع أصبعي السبابة وكأني أستدرك فكرة مهمة.. " أواجه ذلك كله بالأحلام.. لا أشبع من تلك الأحلام التي أطرزها وفقا لما يشتاق إليه هذا القلب.. ليس مهماً كيف شكل تلك الأحلام أو مقاساتها. المهم أن لا يسرق مني أحدهم حلما كنت قد آمنت به وعشقته. وما أكثر سراق الأحلام في مدننا.. أمين: لا مقاس للأحلام، لا حجم لها ولا تخم. لا حدّ لها ولا أفق. كم كنت أستمد العون والإلهام من صور الحلم الباذخة، الوافرة، الواهبة عوالمها وكائناتها وألغازها عن طيب خاطر وبسخاء. كنت كلما ذهبت إلى نوم، عدت وأنا أحمل سلة مترعة بالصور. الآن، يندر أن أرى حلماً. بالأحرى، قلما أتذكر تفاصيل حلم. بدلاً من ذلك، صرت أخترع لنفسي الأحلام. لكن شتان بين هذا وذاك. بهذا المعنى، نعم.. ثمة من سرق أحلامي. ربما الليل، ربما القدر، أو ربما هو العمر فيما يتقدم حثيثاً نحو فضاء يزداد هرماً كلما ابتعد عن إقليم الذاكرة. علي: قلت واكرر: أنا مجموعة أحلام تمشي على قدمين. هي تتجول معي في كل مكان، وليل نهار، إن نامت أوقظها، وان تعبت احملها وأقودها إلى المناطق التي تستحق أن تعيش فيها. أحلامي لا تقبل التوقف والانحناء أو الانكسار، معها أتجول بين قسوة الظروف. وانهزامات الآخرين، لأنني على مستوى شخصي، تعودت ألا التفت لما يدعى بالهزائم. فطبيعتي أن أحول كل السلبيات التي تحاول أن توقفني عن مواصلة مشاريعي الحياتية والإبداعية، إلى ايجابيات، إلى سموات أكثر اتساعا من سموات اليومي، وفضاءات أخرى أكثر جمالا من العادي والمكرر والمألوف، تساهم في دفعي جسديا ونفسيا وروحيا إلى أقاليم أكثر جمالا وبهجة. ** أمسك القلم.. أرسم دائرة على الورقة البيضاء الفارغة التي كانت أمامي.. وكأنني أغلق بداخلها تلك الحيرة، كأنني أطوق ذاكرتي وأطارد ذلك الضوء الأبدي الذي أشعر به في تلك اللحظة.. عبير: اشتهي أن أتجاوز المحن.. أن أعلق قلبي على صدري واحمل صمتي معي إلى المكان الآخر البعيد.. إلى هناك.. انظر.. هل تراه؟ أشتهي أن أكتب دون مراوغة، دون شبهة.. أريد أن أفعل كل ما أشتهي دون جرح.. دون رعشة خوف تشل روحي وتمنعني عن الفرح.. ** أنظر إلى أمين صالح وأسأله: كيف لي أن افعل ذلك؟.. أخبرني؟ وهل يجب أن ندخل " العزلة " لنعبر المكان إلى هناك؟ ** ينظر أمين إليّ وروحه اليقظة تتجلى في عينيه.. أمين: لا أحد يرى ما تراه. إنه مثل السرّ الذي لا يعرفه أحد قبل أن تفشيه، وتبوح به.. لكن عندئذ لا يعود سرّاً. خبئ المكان. استره وحصّنه وصنه إذا لم ترد أن يكون عاماً، فيستبيحه الآخرون، وتحتله النظرات من كل حدب، فلا يعود بكْراً. ** يقطع الصمت حديثه.. يسبح في تلك الدائرة الكبيرة التي رسمتها على الورقة. يرفع رأسه وينظر إلي ثم يقول:.. غير إني لا أحب أن تكوني في عزلة. ماذا لو احتجت إليك؟ ماذا لو احتاج إليك كائن آخر، بدوره يمكث أسير عزلة من نوع آخر؟ أعرف أني أنطلق من دوافع أنانية. اعتبرها إحدى رذائلي. واعترف انني ألجأ إلى العزلة، عندما أكتب نصاً، وأتلذّذ بها. لكنني لا أرغب في المكوث داخل الشرنقة لفترة طويلة. عندها أجد صعوبة في التنفس. أقول لنفسي: ماذا لو حدثت معجزة في الخارج وشاهدها الجميع إلا أنا؟! حتماً سوف أشعر بالغيظ والحسد. لدينا معايير مزدوجة. نعاني من شيزوفرينيا رهيبة. نلبس ما لا يحصى من أقنعة حتى تختلط علينا الأمور فلا نكاد نميّز بين معيار ومعيار. الواحد منا مشطور إلى خمسين هوية. وفي الأخير نبكي لأننا نعيش أزمة هوية، أو أزمة فقدان الهوية!! لا أتجانس إلا مع مخلوقات أخترعها بنفسي، أتفاعل معها وأتحاور. ** يسحب "الشرقاوي" الورقة إليه.. يطوي الجزء العلوي منها ثم يقول لي بأبوة كبيرة:.. علي: نعم ياعبير.. أنظري إلي.. ارسم دائما خارطة طريقي وادخل فيها، وأسير على خطوطها، إذا كانت هناك ثمة عوائق اقفز فوقها، وإذا كانت هناك عثرات، أتجاوزها، أرى ما أريد أن أراه، والذي لا يتماشي مع رؤيتي للحاضر الذي أحياه اتركه، ولا اهتم كثيرا بالمستقبل، المستقبل له ناسه ومشاكله وهو القادر على حلها في وقتها، من المقولات التي أثق فيها كثيرا، هي مقولة (لكل زمان دولة ورجال) لهذا أسير واحلم وأتجاوب مع حركة الكون، ولا أريد الوصول إلى ما أريد، كل وصول بالنسبة لي نهاية: في ما أرى إن كل همي الحقيقي هو أن أتمتع بالرحلة الحياتية بين ضفاف وأخرى، أعيش الحياة التي لن أحياها إلا مرة واحدة، وأحب كل ما أعطاني الله من فرح أو ألم. ** يردد كمن التقط فكرة مهمة.. الوداع.. ثم يسترسل.. أيضا لا اهتم، رغم مروري على الكثير من المطبات الحياتية، هذه التي اسميها الدروس، أعطاني الكثير من التجارب ومن أهمها العيش في المحبة الكونية، محبة الذات والناس والطبيعة، والتسامح مع نفسي أولا، والتسامح مع كل من أساء إليّ، الماضي علمني أن التسامح أفضل علاج للإنسان، الماضي علمني أن أكون ايجابيا في كل الظروف والأوقات، الماضي علمني أنني ذات جاءت العالم، وتعلمت منه الكثير، لتعود إلى بيتها الأول، مزحومة بالمعرفة الدنيوية. عبير: ولكن.. في كل يوم تسرق مني الحياة أحدا ما أحبه.. تفعل معي تلك السرقات دون أن تشفق على هذا الصغير الذي بداخلي والذي اسمه " القلب ".. تسرق مني صديقا، تسرق مني قلوبا.. وأماني.. أمين: أهتم بأصدقائي الحميمين وأثق بهم. لا أثقل كواهلهم بالمطالب والواجبات. لا أعاتبهم إن غابوا قليلاً، أو غمرتهم الحياة بأعبائها. البعض، وربما الكثيرون، يظنون أن الصديق ينبغي أن يكون حاضرا دوماً في السراء والضراء. يحسبونه اسفنجة تمتص كل أوجاعهم وخيباتهم. يحسبونه خادماً يلبي رغباتهم واحتياجاتهم. يحسبونه حاوياً يمتلك الحلول لكل مأزق أو أزمة. يحسبونه مسلياً ومرفهاً وعليه أن يبعد عنهم الضجر والكآبة. أصدقائي أحبهم وأخاف عليهم. تختطفهم الحياة أسابيع أو شهوراً، لكنهم دائماً يعودون وهم أكثر جمالاً وبشاشةً. الأصدقاء لا يشبهون إلا أنفسهم. يتألقون حتى في غيابهم. علي: في الغياب.. وفي لحظة الوداع لن أقول شيئا، فقد قلت كل ما يمكن قوله في فترة الحياة، سأترك كل شيء بحلول موعد الرحيل عن الدنيا، سأترك للناس الفرصة لأن يقولوا ما يريدون قوله، ولا يهم إن كان في صالحي أو ضدي. في الوداع لن أقول أي شيء، لأنني قمت بدوري وأديت مهمتي التي جئت لانجازها على هذه الأرض، في المدة التي حددت لي. عبير: لكل خيار في الحياة ثمن.. أقسى تلك الأثمان هي التي تدفعها من كرامتك، من الصدق الكبير الذي تعاطيت به.. ** أسحب الهواء إلى صدري ثم أخرجه كمن يجرب أن يضع بهمومه على الطاولة.. وأتابع: علينا أن نحسن الاختيار حتى لا ندفع الثمن باهظا. ** يقف أمين بعد أن يسحب كرسيه إلى الخلف.. يعلق وهو يحاول إخراج بعض النقود من محفظته: أمين: أؤمن أن الإنسان مسؤول عن اختياراته ومواقفه، وعليه أن يتحمل النتائج (أياً كانت) والعواقب (إن وجدت). قد يندم مستقبلاً عندما يكتشف أنه أساء الاختيار، وقد يشعر بالرضا لأنه يرى بأنه أحسن الاختيار. هكذا هي الحياة. وعلينا أن نخوض التجربة، ونُخضع أنفسنا للامتحان. هل أشعر الآن بالندم على اختيارات معينة ما كان ينبغي الانحياز لها؟ ** يفكر قليلا ثم يقول لي: نعم. أظن ذلك. لكن الحياة لا تعود إلى الوراء، والماضي لا يمكن استعادته إلا ذهنياً، وعبر الذاكرة. هل من الصواب الاستغراق في الندم؟ بالطبع لا.. ليس مجدياً هذا. وإلا فإنك تأكل نفسك ببطء وبقسوة لا مبرّر لها. ** يقف أيضا علي الشرقاوي.. يتناول أوراقي ثم يرتبها.. يضعها بين يدي ثم يبتسم ليقول لي قبل أن يغادرا.. علي: سأقول فقط: اكتشفوا ذاتكم في سن الرشد. اعرفوا مهمتكم الحياتية، قوموا بأداء دوركم بأفضل ما يمكن. ** أنهض لأودعهما.. وقبل أن يغادرا تلك الطاولة في ذلك المقهى ويختفيا في الزحام.. أرفع يدي ملوحة وأسألهما: عبير: متى سنلتقي مجددا؟ ** أمين ملوحاً بيده لي: لا أدري. ربما قريباً. ربما بعد أيام أو أسابيع. لكن دع باب حلمك مفتوحاً. قد أمرّ مصادفةً وأدخل. وسوف أترك باب حلمي مشرعاً، فلربما رغبت في زيارتي ذات ليل. ** أعلق حقيبتي.. أحتضن أوراقي.. أرتدي قبعتي السوداء.. أغادر بعد أن أخلف ورائي ورقة مطوية.. على طاولة بوح تشتهي أن تحتسي قهوة الحب في مكان ما.. في شمال القلب.