خصوماتنا التاريخية يجب أن لا تُحصر في الماضي القديم، فكل شعوب الأرض مرت بحروب ونزاعات، والنموذج الأوروبي ربما أكثرها وضوحاً، لأن كتابة تاريخ دوله أخذ مساراً لا يحاكم تلك الأزمنة، وإنما يفهم لماذا كانت الخلافات من يُشعل تلك الحروب، ولكنها بعد تصحيح تاريخها استطاعت أن توجد اتحادها رغم الميراث الثقيل من تلك التركة. لنأخذ الجدل الدائر في كل مناسبة عن المرحلة العثمانية التي أقامت امبراطورية شملت احتلالها لمعظم الأقطار العربية، ولا زلنا لم نحسم أمورنا بنظرة موضوعية سواء من جانبنا أو الجانب التركي، ومع أن الجهود ظلت بعيدة عن مستواها الحقيقي، فإن لقاءات عديدة بين مسؤولين حكوميين، ودراسات مستقلة من الطرفين حاولت أن تواجه تلك المرحلة بسلبياتها وإيجابياتها، إلا أن الخلافات ظلت قائمة عند أصحاب القوميتين من المتطرفين برمي كل جانب بالمسؤولية دون الآخر.. نعم، هناك جرح عربي من تلك المرحلة، وهناك تعالٍ من قبل أتراك لا نقول عنهم إنهم أكثرية بأن العرب تحالفوا مع الغرب لإسقاط امبراطوريتهم باتهام يصل إلى التخوين، غير أن الاستمرار في هذه الجدليات العقيمة، يفترض أن نصحح مسارات اليوم، ليس بتناسي الماضي، ولكن باعتباره جزءاً من تاريخ لا تُبنى عليه العلاقات في عصرنا الراهن. المعروف من قبل الدارسين في كلا الجانبين أن تأثير الحضارة العربية كان في صلب مكوّن الشعب والحضارة التركيين، وأن الإسلام ظل قوة الدفع لإنشاء تلك الامبراطورية، وحقيقة أخرى أنهم من حافظ على المذهب الإسلامي السني، وقاوموا أي تحريف فيه، وحالياً نجد كما تعترف مجامع اللغة العربية والتركية أن ما يزيد على ثلاثين ألف كلمة عربية متداخلة مع اللغة التركية، وأن هناك كلمات تركية دخلت لغتنا بحكم طول تلك المرحلة، علاوة على أنه لا تصل وظائف القضاء للمراكز الأولى إلا لمن يجيد العربية زمن الدولة العثمانية. الفجوة حدثت مع نظام «أتاتورك» ومع ذلك لا نجد تجذر تلك الخصومات لتقف حائلاً بين الكيانين، حتى إن زيارات عربية وتركية تمت في تلك المرحلة، ولم تكن بدون إيجابيات، أو أنها كرست العداوات بشكل مطلق، وقد نرى في تقويم موضوعي أن جرح فقدان الامبراطورية والتآمر على تفتيت الجسم التركي الأصلي، وقيام حروب بينها وبين أوروبا أحد النواتج لتلك الخلافات. حالياً لا نقول إن الكيانين اكتشفا بعضهما، وإنما من خلال تغير البوصلة واعتماد مبدأ المصالحات وإنشاء علاقات جديدة، واتفاقات اقتصادية وسياسية دون تغيير في مسار سياسة كل بلد، فإن العلاقات أصبحت تتجه نحو الإيجابيات الصحيحة حتى إن تدفق السياح الذي يميل لصالح الأتراك غيّر مفهوم السلوكيات الاجتماعية والجفوة بينهم حيث إن التركي صار الأقرب نفسياً واجتماعياً، وحتى تشابه العادات والتقاليد للعربي منها لدول أخرى باستثناء ماليزيا، وجاء زحف المسلسلات التركية ليضعنا أمام تاريخ لا ينسلخ منه ولكنه ينتقده بأسلوب حضاري، ولعل العلاقة بين الشعوب هي من ترسخ البعد الجديد لسياسة المستقبل. نحن الآن أمام واقع جديد صارت تحكمه السياسة، ولكن ليس هناك ما يدفع لعودة القطيعة لأن الخلافات يمكن تجاوزها بالتفاهم خاصة وأن تأكيد المصالح بات أكثر أهمية من الخلافات السياسية التي يمكن حسمها بالحوار البناء..