الكتابة فعل صمتٍ يأتي ولا يؤتى.. هكذا أداهن الوقت الكسول في حينما لاأكتب لكن فمي يستهزئ بي ويحنق عليّ كلما تحدّثت صامتا على هيئة الكتابة.. يالهذه الحروف التي تقوّس العمر ولا تتوقف عن النداء.. تخاتل الوقت وتستدرجه إليها بجمع تفاصيله في سلّة قصيدة أو في بيان موقف أو حتى في تشخيص حالة خاصة.. لايهم هي قادرة على أن تأخذه إليها متى أرادت وأن تشيح بوجهها عنه متى تمنّعت.. لاأجد أحد أبناء هذا العصر ممن يكتبون بمقدورهم اغتصاب جملةٍ محصّنة لمزاجٍ آخر أو إزجاء أخرى يمكن ولادتها في غير زمنها.. بعض المرات تداهمك فكرة مقال أو دهشة قصيدة أو حتى التقاطة شارع ثم ترغمك قيادتك للسيارة على ترديدها كي لاتضيع في زحام الأبواق الطائشة والشوارع المهدورة لكنها تتمدّد فيك.. تسترخي وقد لاتصل إلى مستقرّك إلا وهي باهتة متفرّعة فقدت دهشة ولادتها جنيناً كتابياً.. الكتابة التي تشرب القهوة كما يقول أكثر الكتاب لاتشتهيها في كل ساعة ولايمكنك أن ترغمها على تناولها حينما يكون مزاجها صائما عنك، إنها حالة لاتكون أجمل وأقدر إلا حينما تسترسل فيك حضورها وتقطف من عينيك صحوها ومن قراءاتك تلك الكلمات المسافرة في سطور ذاكرتك المعرفية ومن قدراتك تطويعها لها والامتثال لضجيجها وقلقها.. ومع كل هذه المنعة والترف المزاجي..تحتمل الكتابة مالا يحتمله النسيان أو يطمره التاريخ فهي أثر أخلد من حياة وأبقى من مصير منذ ولادتها الأولى.. تحتمل كل شيء تركه الإنسان في رحلته مع الوجود ذنوبه، أخطاءه، غروره، نرجسيته، تطرفه، اعتداله، حضارته، ولادته، موته.. كل شيء..كل شيء قادرة على أن تحفظه في رحم الخلود وتبقيه في كنف التناقل مهما تباين الرواة أو تغشّاهم المس النسياني أو أخذتهم الأهواء إلى التزوير.. ستبقى الكتابة وحدها وعاء الوجود وماء الحياة فيه..! *** لذاكرةِ الريحِ.. للبدويِّ الذي يخلطُ الحبرَ بالماءِ.. للمهدرينَ دمَ الوقتِ … هذا زمانُ الكتابةْ..! من أوَّلِ السطرِ.. حتى نعاسِ الأناملِ..من آخر الشطرِ.. حتى حُداءِ القوافلِ أستلهمُ الدربَ نحوَ فمي..