على قدر ما أوتي الإنسان من عقل ودهاء مكنه من إخضاع أشرس الكائنات وتذليل أعتى العقبات والوصول إلى القمر وقريباً إلى المريخ، إلا أن فيروساً لا يمكن رؤيته إلا بالمجهر الإلكتروني يهزم هذا الإنسان المتغطرس الذي ظن أنه استطاع إخضاع كل شيء لمشيئته.. بل وقدرة هذا الفيروس بتدبير والي الأقدار على سرعة الانتقال بلا حدود أو عوائق جغرافية، فهاهو (إيبولا) ينتقل إلى أقصى العالم -بالنسبة إلى مصدره في إفريقيا- إلى أوروبا وأمريكا، هذه الدول التي طفقت تستنفر دوائرها الطبية والعلمية لتدافع عن شعوبها ضد غزو هذا المحارب الصنديد الخفي والمرعب والذي يتوقع أن يوقع مستقبلاً أربعة آلاف وخمسمائة ضحية في الأسبوع. هذه القارة السمراء التي عانت ما عانت من ويلات الاستعمار خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، من الاستعباد وتجارة الرقيق الذين سلبوا منها إلى إمريكا وأوروبا، واستنزاف ثرواتها ومواردها من قبل تلك الدول. ثم بمن قاوموا المستعمر أو ركبوا موجات الثورات التحررية واستغلوها للوصول إلى السلطة ومن ثم الاستفراد بها وبالبلاد والعباد، هذه القارة المظلومة كأنها تنتقم وتثور بهذه الفيروسات الجبارة المرعبة والتي هي حديث العالم اليوم. هذه القارة التي لو تراجعت على الأقل وتيرة الصراعات والحروب فيها إلى أضيق حدودها لقضت على مجاعات العالم، سلة خبز البشرية ومنجمها لأنفس المعادن، فرب عقد من الماس طوق عنق غانية في فينا خرج من منجم في الكونغو بسواعد افارقة كدحوا في استخراجه شهوراً لقاء مايسد بالكاد جوعهم. إذ من أين تأتي متاجر الماس في انتويرب البلجيكية بمجوهراتها إلا من مناجم الكونغو والجابون، وكيف تنتج مصانع الشوكلاته الفاخرة في سويسرا دون الكاكاو الذي تجود به هذه القارة السمراء المظلومة، ومن أين للأمريكان هذه الأطنان من القهوة التي يستهلكونها يومياً وهم أكثر شعوب الأرض شربا لها لو أن إفريقيا لم تصدر حبوب البن اليهم - إلى جانب البرازيل بطبيعة الحال. لقد أنجبت القارة السمراء لقمان الحكيم من قبل، صاحب الحكم والنصائح السامية، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (19) سورة لقمان، هذه القارة التي أنجبت السجين الذي عفا عن جلاديه حين ظفر بهم ووصل للحكم نيلسون مانديلا، والعسكري الوحيد الذي سلم السلطة طواعية لحكومة مدنية بعد انقلابه في السودان محمد سوار الذهب، والملاكم الأسطوري -شفاه الله- محمد علي، مالكوم اكس، مارتن لوثر، ورئيس أقوى دول العالم أوباما وغيرهم. ألا يكفي هذه القارة مآسي فوق مآسيها، فكأن هذه الفيروسات صرختها للعالم أنني إفريقيا، كفاكم سلباً لخيراتي وقتلاً لمواردي وسكاني.. صحبتكم السلامة.