من السهولة أن يتم بين عشية وضحاها الإعلان عن قيام دولة ــ كما حدث مع إسرائيل مثلا ــ لكن الصعوبة البالغة في أن تبقى دولة دون أن يكون لها أسس أخلاقية تبنى عليها مؤسساتها، وتشكل عليها حضاراتها، والتاريخ يشهد بأنه لم تقم حضارة لأمة بربرية همجية لا تعرف أخلاقا، ولا يذكر التاريخ بالخير والثناء إلا تلك الأمم التي تركت للإنسانية كنوزا حضارية، ما زلنا ننهل منها، ولا يغرنك أخي تلك الصور البراقة لمظاهر الحضارة الزائفة التي نراها في بعض الدول، في جوانبها المادية. فلا بقاء لأمة إلا إذا التزمت بدستور أخلاقي راق، ولا بقاء لحضارة إلا إذا بنيت على أسس أخلاقية متينة. ولا يمكن بحال من الأحوال (التجسس) سلوكا أخلاقيا مقبولا في العلاقات بين الدول والأفراد، إلا في حالة الحرب بين دولة وأخرى، ولم يسجل لنا التاريخ تجسسا على خصوصيات الأفراد حتى في حالة الحروب، وإنما أبيح التجسس هنا لمعرفة قدرات العدو وإمكاناته واستعداداته، لكن التاريخ القديم لبني إسرائيل يسجل لنا حوادث وحالات تجسس عديدة، على الشعوب والأفراد، في حالات الحروب وفي حالات السلم أيضا، بحيث أصبح (التجسس) سمة من سمات الشخصية الإسرائيلية، في الماضي والحاضر. هذه الخواطر مرت أمام ناظري وأنا أقرأ منذ أيام خبرا نشرته صحيفة (دير شبيجل) الألمانية، حول وقوع جون كيري وزير الخارجية الأمريكية ضحية لعملية (تجسس) إسرائيلي قام بها جهاز الموساد (الاستخبارات الإسرائيلية) على هاتفه، وذلك خلال زيارته المكوكية الأخيرة لمنطقة الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني، وأفادت الصحيفة أن مضمون اتصالات كيري التي تم التجسس عليها، قد أفاد إسرائيل كثيرا في مفاوضاتها الجارية حول سبل التهدئة في المنطقة، وجدير بالذكر ــ حسبما نشرت الصحيفة الألمانية ــ أنه قد تم التجسس والتنصت من قبل إسرائيل على اتصالات كيري في العام الماضي، وبنفس الأسلوب. والغريب هنا، أن كيري، بشخصه وإداراته، من محبي إسرائيل والساعين لتحقيق مطامعها والمحافظين على مصالحها، وهذا لا يخفى على أحد. إنها قضية تراث أخلاقي يتمكن من الأمم والشعوب، يوجه سلوكياتها مع الآخرين، وقد دفعني هذا إلى الربط بين هذا السلوك الأخلاقي المستهجن، ورفض المملكة لأن تتبوأ مكانة تحلم بها الدول الأخرى في الأمم المتحدة، لأنها رأت في ذلك عجزها عن القيام بدورها الأخلاقي في المجتمع الدولي. سيذكر التاريخ حتما مواقفنا، كما سيذكر مواقف الآخرين، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.