إذا كان البعض قد أكد على سقوط نظرية الأمن القومي منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى العقد الأول من الألفية الجديدة ، فإن أحداث ما يسمى بالربيع العربي ، أثبتت بأن الأمن القومي ليس مجرد نظرية قابلة للجدل ، بل هو حقيقة تعبر عن واقع تاريخي وجغرافي وحضاري لا يمكن تجاوزه، إذا ما أردنا التأسيس لرؤية استراتيجية بعيدة المدى . أقول ذلك بعد أن أدى التدخل الغربي المسلح في كل من العراق وليبيا ، ولاحقاً في سوريا ، إلى خلق حالة فراغ سياسي خطيرة ، وإلى انهيار كيان الدولة في جميع الأقطار الآنف ذكرها . الغرب لا يمتلك الحلول ولا يستطيع فرضها من فوق ، والأصح أن نقول بأن الغرب لا يريد أن يساعدنا في إيجاد حلول لأزماتنا بقدر حرصه على تعميقها . منذ متى تدخل الغرب بشكل مباشر أو غير مباشر لصالح شعوب المنطقة ؟.. طبعاً هذا لم يحدث وهو ليس بالأمر العجيب ، بل هو أمر منطقي وطبيعي ومنتظر .. أما ما هو غير طبيعي وغير منطقي وغير منتظر ، فهو أن يستمر هذا التطلع العربي إلى الغرب ، بوصفه الملاذ القادر على تقديم حلول سحرية لمشاكل وأزمات تسبب هو ، في خلق كثير منها ! لقد خلق الغرب العديد من المشاكل ، بل والمآسي لشعوب المنطقة .. يكفي لكي نقطع الأمل من الغرب ، أن نتأمل تاريخ زراعة الورم السرطاني المسمى بإسرائيل في قلب المنطقة ، ومدى مسؤولية هذا الغرب عن كل ما نتج من مآسٍ نتيجة لذلك ، ومدى مسؤولية الغرب عن استمرار معاناة الشعب الفلسطيني وعدم محاولته إيجاد حل لها . هذا عدا عن تاريخ الغرب الاستعماري ، ومحاولاته التي ما زالت مستمرة للهيمنة على ثروات المنطقة ومسخ هويتها الحضارية ومصادرة سيادة دولها والتحكم في قرارها . من هنا ، ومن خلال ما يعيشه الوطن العربي من واقع دموي ، ومن خطر بات يتهدد واقع ومستقبل الجميع ، فإن الحكمة تقتضي منا أن نعود جميعا إلى فلسفة العمل العربي المشترك ، انطلاقا من الإيمان بوحدة المصير . وكيف لا يكون المصير واحداً ، والعدو واحد وإن تعددت أشكاله ؟! إن العدو الجديد - أقصد تنظيم داعش وباقي المنظمات الإرهابية التي تتوارى خلف شعارات دينية - إضافة إلى العدو القديم والأزلي - أقصد طبعاً إسرائيل - يستهدفان الجميع ، لا فرق في ذلك بين أنظمة ملكية أو جمهورية ، يمينية أو يسارية ، معادية للغرب أو متحالفة معه . وهنا يجب أن نتوقف طويلاً أمام عدم ذكر فلسطين ضمن أجندة التنظيمات الإرهابية التي أعلنت ( الجهاد ) على الجميع ، باستثناء الكيان المغتصب الذي يقبع على مرمى حجر من مقاتليها ! إن ما تمر به المنطقة من أحداث ، أثبت بأن ما كنا نعتقد بأنه خلاف عميق بين الأنظمة العربية التي باتت رغم كل المآخذ عليها ، الضمانة الوحيدة للحفاظ على كيان الدولة ووحدة الأرض ، لم تكن عميقة فعلاً .. فعلى المستوى الاستراتيجي ، ليست هناك خلافات تصل إلى حد قطع خطوط الرجعة ، إذ لا تشكل الدول والأنظمة العربية أية تهديدات وجودية لبعضها البعض .. وهذا يعني أن جميع الخلافات بين هذه الدول قابلة للحل ، خصوصاً في ظل تعرضها جميعاً لذات الخطر . لقد أثبتت الأحداث التي تلت ما يسمى بالربيع العربي - هي تسمية غربية مستوحاة مما أسماه الغرب في أواخر الستينات ربيع براغ - أن دولنا تتعرض لخطر وجودي حقيقي تمثله التنظيمات الإرهابية إضافة إلى إسرائيل التي لم ولن تتلقى رصاصة واحدة من هذه التنظيمات . وعندما أقول خطراً وجودياً ، فإنني أعني حرفياً استهداف وحدة أراضي كل بلاد الوطن العربي ، والعمل على تدمير كيان الدولة فيها .. أي إغراقها جميعاً في حالة فوضى شاملة وفراغ مدمر ، كما يحدث الآن في سوريا وليبيا ، ومن قبلهما العراق . لقد اعترف الرئيس الأمريكي باراك أوباما مؤخراً ، بأن إدارته أساءت تقدير خطر داعش ، وعلى هذا الأساس اتخذت الولايات المتحدة قرارها بتوجيه غارات جوية على التنظيم في كل من العراق وسوريا . وهو كلام كفيل في حال التعامل معه من منطلق حسن النية ، بانهيار الثقة بأمريكا التي لم تتمكن رغم كل ما تمتلكه من أدوات ومعلومات وقدرات استخبارية وعسكرية ، من تقدير خطر هذا التنظيم . أما إذا ما تعاملنا مع كلام أوباما من منطلق سوء الظن ، فإن المصيبة تبدو أعظم . منطقتنا لنا ومن المفروض أن نكون أدرى بها وأحرص عليها من الأجنبي الذي تقتضي مصالحه في كل الأحيان ، خلق حالة من عدم الاستقرار فيها . الأمن القومي ليس مجرد نظرية قابلة للصواب والخطأ ، بقدر ما هو ضرورة استراتيجية ، بل ووجودية أيضاً . anaszahid@hotmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (7) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain