وهل كان العراقُ إلا بلدَ الشعر والأدب والفنِّ والجمال؟ لقد كان العراق منارةً تهديـنا قروناً طويلة في سُبُـل العلم والفن والمعرفة، وكان -ولله ما كان- نشـيداً تعشـقه الحناجر والقلوب، وكان العراقُ لحـظةَ اللقاء، وشهقة الرحيـل، ودمعة الوداع، وبهجـة طلاب العلم، ومحطَّ أنظار الطامعين، وقِبلة الجائعـين، وكان العراقُ ميلادَ العرب المجـيد في سائر الفنـون والألوان والمعارف، وكان حزننا وفرحنا وبكاءنا وضحكنا وكُتُبنا ومحابرنا ومذاهبنا وحروبنا وعشقنا ووجَعَنا، وكان العراق.. وكان العراق! فلا غرابة إذن أن يكون نصفُ شعر العرب للعراق وفيـهِ وبهِ وعنه، ولا عجبَ أن يكون شعراء العراق أشهر الشعراء وأدباؤه أبرز الأدبـاء، إذ إنَّ الشعـر يعشق الأحـزان، وهل في بلاد الله حزنٌ يساوي حُزنَ العراق؟! وهذا شاعرٌ كبيـر من عِراق الله لمع اسمهُ في بداية القرن الماضي ثمَّ خَبَا، وقد قال عنهُ عباس العقّاد مبالغاً: هو أشعر شعراء العربية! وقال عنه الشاعر القروي: شعرهُ دنيا من الفنِّ قائمة بنفسها! وقد كان وطنيّاً عارض الانتداب البريطاني وهرب من العراق حينما علم أن حكومة بريطانيا تسعى لاعتقاله، فقضى حياته مشرّداً في مقاهي بيروت ودمشق! وهو الذي يقول عن التشرّد: وهل نسَبٌ مثل التشرّدِ جامعٌ**تجمّعَ فيهِ كلُّ شملٍ مُـبدَّدِ؟! وفي شعر هذا الرجل إنسانية صادقة وبراعة في التصوير وطرافةٌ وجِـدّة. كان (أحمد الصافي النجفي) شاعراً يشبه العراق: لئنْ أضعَفَتْ جسمي الخطوبُ وحملها فما أضعفتْ نفسي ولا وَهَنت عزمي كأني خيالٌ حين أمشي من الضنى وليثٌ عرينٌ حين أسطو على خصمي! حياتي بنفسي لا بجسمي منوطةٌ وقوتيَ قوتُ الروح والقلب لا الجسمِ! وقد كان الصافي رجلاً مشغولاً بالأدب، فكان من أوائل مَنْ ترجموا رباعيات الخيّام إلى العربية، ونشر شعره في أكبر مجلات العرب، وله دواوين عديدة، ومن شعره الذي يعزّي به نفسَـه حين كان مريضاً مشرّداً في مقهى (الهافانا) في دمشق: يضعضعُ الدهرُ أيامي فأمسكها ويقتل الدهر آمالي فأحييها! تبني عليّ الليالي من نوائبها سجناً فتنفذ روحي من مبانـيها! ياعِلّةً رافقت جسمي بمولدهِ حتى استحالت كجزء الروح أحويها! أخافُ فقْـدَ حياتي حين أفقِـدُها وأختشي من فنائي حين أفنيها كانت دموعي نصيري عند كارثتي ترشُّ نيرانَ أحزاني فتطفيـها! وفي خطابه للفلاّح العربي البائس يقول: يتنازعون على امتلاكك بينهم فلهم عليك تشاجرٌ وكِفاحُ كم دارت الأقداحُ بينهم ولمْ تُمْـلأ بغير دموعِكَ الأقداحُ! لقد كان أحمد الصافي النجفي -قياساً بزمنِه- علامة شعرية بارزة، وصوتاً أصيلاً يهَـبُ للحياةِ طعمها ومعناها.