×
محافظة المدينة المنورة

تخليد الرحلة المباركة بالهدايا

صورة الخبر

حسناً. تعالوا نفكر بأناة، وبقليل من التأمل. ها هي الأساطيل تمخر عباب البحار، وتحتل الغيوم، وتهيمن على المشهد الكوني في هذه القنطرة القلقة من أجل «القضاء على الإرهاب» الذي تمثل «داعش» رأس الحربة فيه. وها هو الخوف ينبعث مجدداً، كأنّ قدر هذه المنطقة في العالم أن تظل تسبح في أنهار الدم، وتتنفس التوتر، وتشهق عواصف التطرف والعدم والهزء بالحياة. الحرب ستستمر سنوات. هكذا قال الجنرالات القابعون أمام أجهزتهم التجسسية التي تعرف مآل النملة على الأرض ومن أين أتت، وإلى أين ستمضي، مع أن زعيمهم أوباما اعترف بفشله الاستخباري في تقدير حجم «داعش»، وكان قبل ذلك اعترف بأنه لا يملك استراتيجية لمجابهة هذا التنظيم الذي توحي تصريحات «زعيم العالم» بأنه نبتٌ فطري انبثق، على حين غرّة. ولأننا، شعوبَ هذه المنطقة المنكوبين بالخيبة والأقدار اللعينة وقلة الحيلة، غير قادرين على رد هذه المشيئة الكونية، فإن أضعف الإيمان ألا نستسلم بانتظار الموت المحتم الزؤام حينما نرى رؤوسنا تتدحرج تحت أقدامنا. علينا أن نتقدم، ولو قيد أنملة، نحو الأمام كي نشعر بفاعليتنا التاريخية. علينا، إذاً، أن ننضم إلى تلك الأساطيل، ومدّ الأيادي لمجابهة البغدادي! ولكن كيف، لا سيما أن بعضنا ممن أصابته لعنة المؤامرة، يعتقد أن هذه الحرب موجّهة ضد الإسلام، ومن أجل إعادة احتلال المنطقة، وكأنما المنطقة، يا رعاك الله، ترفل بثياب الاستقلال والحرية والديموقراطية والعدالة! أن ننضم إلى تلك الأساطيل، يعني أن نقوّض الفكرة الداعشية فكرياً، ونبذل ما في وسعنا كنخب، من شتى الأصول الفكرية والمنابت الأيديولوجية والمذهبية، من أجل بيان تهافت تلك الفكرة التي أثبتت الأحداث الأخيرة أنها تستحوذ على إعجاب كثيرين، من بينهم يساريون وإسلاميون عقلانيون، بذريعة «التحالف الغربي» الذي تقوده الولايات المتحدة ورفيقاتها الغربيات من أجل إعادة تدوير السيطرة على المنطقة، من دون أن يفكر أولئك المعترضون في هذا التماهي العجيب الذي ينشئونه بين «داعش» و «أخواتها» وبين الإسلام، وكأنهم يستبطنون دفاعاً عن إسلام «داعش»، بصفته إسلام المسلمين جميعهم. ولأن الفراغ الذي تركته النخب الثقافية وأصحاب الانتسابات اليسارية والليبرالية والعلمانية والإسلامية العقلانية، أفسح في المجال أمام التيارات الجهادية المتطرفة التي تنهل من معين المقدس ما شاء لها، باعتباره «حمّال أوجه»، فإن الانخراط في الحملة ضد أولئك الذين يختطفون الإسلام، تكون برد موازٍ يعيد تفكيك المقولة الدينية عبر تأويل يمتد إلى تراث المعتزلة والمتصوفة وإبن رشد، ويدشّن فهماً جديداً لـ «الإسلام الحضاري»، لأن الناس، من فرط حيرتها، لم تعد تميّز بين الغيّ والرشد، لأن الغي يستند إلى جدار النص الشاهق، فتلتبس الرؤية، ويخضع المتلقي العادي ذو التدين الشعبي إلى تلك المقاربات صاغراً، فماذا يقول لمن يخاطبه بأن الله يقول كذا، وإن الرسول يأمر بكذا، وأن الصحابة المبشرين بالجنّة فعلوا كذا، وأن الفقهاء حضّوا على كذا؟! المهمة صعبة، بلا ريب، لكنها تستحق بذل المشقة، دفاعاً عن المستقبل، وعن الأجيال المقبلة التي أصابها الفراغ، الذي كان يتعين أن تملأه النخب، بانجذاب أعمى نحو فكر يعلم سدنته ما يفعله بريق المقدس العلوي الميتافيزيقي في عقول امتلأت بالخرافة، وتتلمذت على الجهل، وجعلت التفكير العلمي رجساً من عمل الشيطان يستدعي اجتنابه! يتعين أن يتم الرد على عنف تلك الجماعات الإرهابية بعنف موازٍ، حتى لو كان رداً خطابياً يتوجه إلى الحواس كافة، من أجل تحطيم الصورة النمطية الزائفة لـ «المجاهدين» التي يرسمها أنصار «مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي» الذين يستهجنون ممن «رضوا ببيعة الطاغوت لسنين ولم يرضوا ببيعة أمير المؤمنين»! فالذين يقتلون البشر الآمنين، ويشرّدون المسيحيين والأزيديين والأكراد والشيعة العزّل من بيوتهم، ويستولون على مقدساتهم ويفجّرونها، ليسوا مجاهدين. والذين يحزّون رقاب الصحافيين والمدنيين الأجانب أمام مرأى الكاميرات، ليسوا مجاهدين، والذين يختطفون الجنود الأبرياء ويتخذونهم ورقة مساومة سياسية ليسوا مجاهدين، والذين يبيعون النساء في سوق النخاسة، وينتهكون براءة الطفولة، ويتعاملون مع المرأة كسلعة ومتعة من أجل تفريغ شهواتهم الحيوانية، ليسوا مجاهدين. هؤلاء متوحشون وقتلة، وأعداء النور. هؤلاء يتوهمون أن «إسلام الكهوف» الذي يعشش في عقولهم الصدئة هو الإسلام الحقيقي. كلا يا «فقهاء الظلام»، إن إسلامكم ليس إسلامنا، فأنتم تكرهون الدنيا وتدمّرون الحياة، ونحن نحبّ الحياة، ونودّ أن نعمّرها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً!