في الوقت الذي ينتظر فيه المجتمع تجديد الخطاب الديني ومسايرته للعصر إلا أننا نجد بعض الفقهاء والعلماء لا يتمكنون من ذلك لقلة الجرأة على التغيير عند أكثرهم. فمع ظهور الجرائم الدينية وهي الجرائم التي ترتكب باسم الدين من جماعات تدعي التدين كداعش وغيرها، ومع ظهور الصراع الطائفي المبني على فقه قديم، ومع ظهور الإلحاد والتذمر من بعض الأحكام الشرعية، ومع ظهور وعي شعبي قادر على نقد الأحكام، بالإضافة للتطور الحاصل في التنمية؛ فإن هذا كله يتطلب مراجعة جذرية للفقه السائد. ومع هذا الإرجاف الحاصل لبعض العلماء والباحثين لا يمكن إيجاد شيء من ذلك، ولن نصل إلى أي حلول أو معالجة لما سبق، بل إنه من العبث أن نعهد بمعالجة ما سبق بالفقه السائد، فهو فقه قديم محصور، وتلك الأفعال الإجرامية والصراعات والإلحاد تستند على هذا الفقه القديم وبعضها أتت منه، ومن يعالج فقها قديما بفقه قديم مثل من يغسل الزيت بالزيت. ولذا وحتى نحصل على كم هائل من الفقه المتجدد الكفيل بأن يحدث تقدما فكريا في ثقافة المجتمع لا بد من خلق الأرضية للعالم ليتحرك وهو مطمئن، وليتجرأ وليبوح بكل ما يصل إليه وليقول فتاواه المجددة وأحكامه التي وصل إليها بأريحية كاملة، فلا يعقل أن ما يخفيه العالِم مساو لما يظهره، فهذا لا يعرف إلا في عصور كان الاجتهاد فيها ممنوعا، بل إن هذا نوع من التقية، وحتى نصل لهذا التجديد لا بد من: أولا: أن ينتشل العالِم نفسه من الحزبية، فبعض العلماء منخرطون في أحزاب داخلية يخشون منها، ومن لا يستطيع انتشال نفسه فلا حاجة لنا به، بل نصف عالِم غير محزّب أفضل من عالِم محزب أو خائف. ثانيا: أن من لم يكن محزبا فعليه أن ينتشل نفسه من سلطة الجماهير، فلا يرضخ لتقييمهم له أو رضاهم عنه، حتى ولو فقد شعبيته، فالعالِم يبحث عن الصواب لا الشعبية، فليس من المعقول أن تتحول أحكام الشريعة إلى عادات وتقاليد هي نفسها من يُحاسب الفرد والعالم عليها كطريقة المحاسبة في المجتمعات المحلية على مخالفة العادات، فبدلا من أن يتوجس الناس مخالفة العلماء أصبح العلماء يتوجسون من مخالفة الناس، حيث تقرأ لأحدهم كتابا يعلم أنه لن يقع في أيدي الناس يقول حكما؛ ونراه في فتوى ستنتشر يقول حكما آخر! ثالثا: أن تنتشر ثقافة التجديد وتتضمن منع تقييم العالِم بالثبات على القول، وإنما بالتجديد في القول، وأن يُضمن له استمراره في كل نشاطاته، فمن يجدد يحصل على فرص أكبر في اعتباره متخصصا حقيقيا، وعدم التشنيع عليه فيما لو أخطأ، وألا يكون هذا محصورا في الفقه السياسي وإنما في كل مجالاته لتخلق مناخا انفتاحيا عاما، فالاستثناءات تخلق تناقضات، ولا بد للمسؤول أن يوجد كل هذا من خلال الإعلام. رابعا: إزالة تلك المقولات النكوصية من مثل: "ليس كل ما يعرف يقال".. "إثارة المواضيع الفقهية لا تكون في وسائل الإعلام".. "إثارتها على الناس تثير البلبلة".. "لا بد من تباحثها في مكاتب العلماء فقط".. فهذه هي نفس مقولات محاربي الاجتهاد قديما، ولو افترضنا أنها ستؤدي لشيء من ذلك فهذا قصور من صاحب هذه المقولات، لأنه لم يستطع إظهار طبيعة العلم الشرعي بين الناس. إني لآسى بالفعل على بعض العلماء في الفضائيات عندما يظهرون للفتوى فتجد أحدهم -مع تقديرنا لهم وحفظ مكانتهم- يحاول الهروب من إجابة أو يغيرها متعمدا حتى لا يحاسبه الناس أو لا يحاسبه مرجعه الوظيفي، وفي أحسن أحواله يمتدح القول المشتهر قبل أن يخالفه، ثم يخالفه لأنه لا يستطيع مخالفته مباشرة، أو يفتي بفتوى يعلم تهافتها ولكنه يخشى من هذه السلطة الاجتماعية أو الوظيفية أو غيرها، وبعضهم مستقلون ليسوا في جماعات أو وظائف وهؤلاء هم أحوج الناس لتلك الثقافة التي تؤصل للحرية.