كنت أتعجب من موقف بعض الممانعين والمقاومين العرب الذين يعيشون في أميركا، عندما يظهرون على شاشات الفضائيات، وهم يشتمون الإمبريالية الأميركية على الطالع والنازل! وأتساءل أيضاً: لماذا لا يذهب هؤلاء ويعيشون في قم وطهران أو غزة أو الخرطوم، ما داموا مغرمين بالمقاومة ومعادين لأميركا إلى هذا الحد؟. تتفرع عن الإجابة على هذا التساؤل نتيجتان: الأولى، إن موقف أولئك الممانعين هو تعبير عن ذروة في النفاق والشيزوفرينيا وعدم الانسجام مع الذات. والثانية، تدل على الفارق الجوهري بين الإمبرياليتين الأميركية والإيرانية، فالأولى مرتبطة بنمط الحياة الغربي، الذي هو نمط إنتاج واستهلاك وثقافة واجتماع، فرض نفسه على الكوكب الأرضي بفعل عالمية الرأسمالية، وهو نمط مغر للشعوب المتأخرة، على رغم أن النخب الأيديولوجية عند هذه الشعوب تلعنه وتطالب بتدميره وتتمنى العيش في حضنه في الوقت نفسه! وسيظل هذا النمط حتى إشعار آخر النمط الأكثر طلباً عالمياً، وسيظل سحره يجذب البشرية قاطبة. أما النمط الإمبريالي الإيراني المستند إلى التعصب القومي والمذهبي وقمع الحريات داخل إيران، وإلى التوسع الإمبراطوري في الإقليم المحمول على ظهور المليشيات التي تنشر القتل والتدمير والخراب، وتستدعي عفناً ماضوياً يغذي حروباً أهلية مديدة، فهو نمط ضد الحياة وضد الاستقرار، هو نمط انفلات الغرائز، والعودة إلى ما قبل مرحلة الإنسان الصانع والعاقل. إن قوة حضور الحياة في النمط الرأسمالي الأميركي، مقابل حضور الموت الروحي والثقافي والحضاري والأخلاقي وكذلك الجسدي في النموذج الإمبريالي الإيراني، هو العامل الأساس، الذي يفسر تنفيس الانتفاخ الإيراني ومن ورائه الانتفاخ الروسي، على أثر قرار الرئيس أوباما التدخل عسكرياً في العراق وسورية. إن الارتباك الإيراني ومن خلفه الارتباك الروسي أيضاً أمام تطور الظاهرة الداعشية في العراق وسورية، وكذلك استنجاد المالكي بالأميركيين للتدخل، واستجداء النظام السوري الانضمام للتحالف الدولي، والفتور والتجاهل الذي قُوبلت فيه الرغبة الإيرانية للمشاركة في مكافحة الإرهاب، على رغم أن الاستدارة الأميركية الراهنة، ليست بذلك الحزم الذي عرفناه مع إدارات سابقة، إضافة إلى غموضها وترددها: «خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الوراء»، وعلى رغم تأكيد أوباما أنه لن يرسل قوات برية. يثبت ذلك من جديد أن معايير القوة ليست بامتلاك الصواريخ والطائرات والدبابات والسلاح الكيماوي والنووي مقامة على بنى مجتمعية متأخرة وعلى أيديولوجيات أسطورية، بل معايير القوة تكمن، أساساً، في قوة النموذج الحضاري. وهذا الذي لا تمتلكه إيران ولا روسيا، وهذا ما يجعل النزوع الإمبريالي الإيراني نزوعاً يرتدي طابعاً عسكريتارياً فقط، ويتحرك في الهوامش التي يتركها له النظام الإمبريالي العالمي، عندما قرر هذا النظام العودة إلى العراق والتعامل بجدية أكبر مع المسألة السورية، حتى بقيادة هذا الرئيس الأميركي «غير المحارب»، ظهرت إيران «نمراً من ورق»، وقريباً سيتبين للعالم أن البرنامج النووي الإيراني عبء على الإيرانيين أولاً، كما كان البرنامج الكيماوي السوري كابوساً مرعباً على السوريين أولاً. فما يحتاجه المشرق العربي بعد خمسة عقود من الحروب المدمرة، هو تفكيك الأسس المعرفية والسياسية والأخلاقية للنموذج الإمبراطوري الإيراني، الذي يغذي كل الحركات والأحزاب الأصولية والقومية في المنطقة، ولن يلج المشرق عتبة الاستقرار إلا بعد إنجاز هذا التفكيك.