يقول الأستاذ أحمد أمين: هي مكة التي وُلد فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيت من بيوتها، وشعب من شعابها، يمشي في شوارعها وأسواقها، ويقضي فيها شبابه وكهولته. بالقرب منها غار حراء، وهو الغار الذي كان يتعبد فيه النبي، وفيه نزل الوحي عليه لأول مرة. وهذه هي مكة التي تتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة، نزلت فيها كل السور المكية، تدعو إلى ترك الأصنام وعبادة الله وحده. وهذه هي مكة التي جرت فيها الأحداث الأولى للإسلام، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو قومه وهم عنه معرضون، يجاهد فيهم، ويصبر على أذاهم، ويلتف حوله أتباع قليلون يؤذَون في أموالهم وأنفسهم، فيحتسبون ذلك عند ربهم. وهذه هي مكة التي كان فيها دار الأرقم المخزومي التي كان يجتمع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر بعثته مع مَنْ آمن معه، وكانوا يصلون بها سراً حتى أسلم عمر فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة، وتعرض للأذى. وهذه مكة التي هاجر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ألحَّ قومه في إيذائه، وأبوا نصرته، وجاهروه بالعداء، وأرادوا أن يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه، ثم هذه مكة يدخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتحاً وينزل عليه في ذلك: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّه وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّه أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه إِنَّه كَانَ تَوَّابًا}سورة النصر (1-3). هذه مكة التي ظلت مقصد الناس في حجهم منذ عهد إبراهيم عليه السلام إلى اليوم.. وهذه هي مجتمع المسلمين اليوم من جميع أقطار الأرض، يهتفون هتافاً واحداً، ويلبون تلبية واحدة، وتدوي في أرجائها (لا إله إلا الله محمد رسول الله). هذه مكة التي يقصدها الحجاج فيرونها وادياً منحصراً بين سلاسل جبال يتصل بعضها ببعض، قد عمرت سفوح هذه الجبال بالمساكن متدرجة عليها إلى الوادي. كل هذه الذكريات تملأ النفس، وتأخذ بمجامع القلب، وتدخلها في موسم الحج فترى عجباً أي عجب.. مئات الألوف من الناس في ثوب الإحرام مغمورين بالشعور الديني، يعجّون بالدعاء والتلبية، وترى معرضاً يفوق كل معرض من الأجناس البشرية، مختلفي الألوان، مختلفي الألسنة، مختلفي العادات، لكنهم قد وحد بينهم الغرض الديني، ووحدت بينهم العقيدة، كلهم يعبد الله وحده، وكلهم يشعر نحو الآخرين بالأخوّة الإسلامية. هذا الجمع الحاشد يشيع فيه الحب والإخاء والمساواة والتعاطف، ويغمرهم شعور ديني نبيل، يهز القلب، ويبعث الرحمة. وفي وسط مكة تقريباً تقع العين على المسجد الحرام بقبابه ومآذنه ونورانيته. فهذه هي الكعبة، وما إن يراها الرائي حتى يشد إليها نظره، ويخفق لها قلبه، وتتحرك نحوها قدمه، وتمتلئ نفسه خشوعاً ورهبة وإعظاماً وإجلالاً، ويرى نفسه ذاهلاً مندفعاً مع الداعين والمبتهلين سابحاً في ذكريات ما قرأه من الدين والتاريخ. هذه هي الكعبة التي جعل الله موضعها وما حولها مثابة للناس وأمناً. هذه هي الكعبة التي يقصدها كل عام مئات الألوف من الحجاج طوعاً لأمر ربهم، وتطهيراً لنفوسهم، ورياضة لقلوبهم. هذه هي مكة التي أخذت شهرتها تنمو وتتسع حتى قصدها الناس من كل فج عميق، وهذه مكة التي سكنتها قريش واعتزَّت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة.