مع فشل بغداد في استعادة أي قدرة دفاعية أو هجومية ذات شأن مهم حتى الآن، وعجز السلطة الرسمية، كما تحالف المعارضة، في سورية الممزقة، بات واضحاً أن جيش الأكراد (البيشمركة) هو القوة الإقليمية الوحيدة في تلك المنطقة القادر على الرد بهجوم مضاد ضد مسلّحي «الدولة الإسلامية» (داعش)، ما دام عنوان السياسة الراهنة للتحالف الدولي تجنب استخدام قوات برية والاكتفاء بشن هجمات جوية على أهداف «داعش». فبعد انتظار طالت مدته حصل تطور مهم قد يشكل في حد ذاته منعطفاً تاريخياً بارزاً في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هو المشاركة الفعالة والمباشرة لدول عربية في العمليات العسكرية. فهذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها خمس دول عربية هي السعودية ودولة الإمارات العربية وقطر والبحرين والأردن، في هجمات التحالف الجوية ضد أهداف «داعش» فوق أراضٍ عربية. ثمة تغيرات مهمة وقعت خلال عام واحد إذ بدا الرئيس الأميركي باراك أوباما في 2014 غيره في 2013. في العام الماضي لم يحصل على تأييد الكونغرس كما فشل في حشد تأييد دولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة لسياسة دعت إلى تحقيق هدفين: ضرب أهداف تابعة لنظام الرئيس بشار الأسد رداً على استخدام السلاح الكيماوي ضد مدنيين سوريين بالقرب من العاصمة دمشق، وتقديم الدعم المباشر لتحالف المعارضة السوري بما في ذلك التسليح والتدريب. وما زاد الأمر سوءاً تصويت مجلس العموم البريطاني على مقترح لحزب العمال المعارض في آب (أغسطس) 2013 ضد المشاركة في هجمات جوية في سورية أو العراق. ولكن ما دامت هجمات التحالف مقتصرة على الجو فإنها لا تكفي، بإجماع منفذيها، للقضاء النهائي على مقاتلي «داعش»، إذ تقتصر على إضعافهم فحسب. وكي تتمكن هذه الهجمات من تقليص قدرة «داعش» على حشد متطوعين جدد والحد من وصولها إلى الإمدادات المالية، فإن ذلك يعتمد بشكل رئيس على تركيا التي لم تحدد بعد حجم وطبيعة مساهمتها النهائية في جهود التحالف الدولي على رغم حل مشكلة رهائنها مع «داعش» بعد تبادل الطرفين للمحتجزين لديهما. في الواقع، كثيرون هم الذين ينظرون بعين الشك تجاه حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان وسلوكها خلال السنوات الثلاث الماضية. فالحدود التركية الطويلة مع سورية والعراق هي المعبر الآمن الوحيد، إلى البلدين ومنهما، لا سيما بالنسبة للآلاف من عناصر «داعش» من حملة جوازات السفر الغربية. وقد أشار أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة في نيويورك أخيراً إلى أن هناك حوالى 15000 أجنبي (غير عربي) يقاتلون تحت رايات «داعش»، والغالبية الكبرى منهم يحملون هذا النوع من الجوازات، حيث يعبرون بحرية عبر نقاط الحدود من تركيا إلى سورية، وبينهم يافعون ويافعات في سن المراهقة. وفقاً لأوباما هناك مشكلة ذات طبيعة «كونية» تتطلب موقفاً «كونياً». فتغيير اسم «داعش» إلى «الدولة الإسلامية» أو «الخلافة» يعني أن هذه المجموعة تطرح نفسها «دولةً» تقوم على المعتقد وليس على أساس القومية أو الجنسية، أي دولة عابرة للجنسيات حالياً، وربما للقارات لاحقاً. وتركز قوات التحالف الدولي أولوياتها راهناً على تدمير قوى «داعش» على أن تتم معالجة نظام دمشق في وقت لاحق. في النهاية إنها مسؤولية الغرب الذي لا تستطيع حكوماته نكران ذلك في خلق الفراغ السياسي وصعود «داعش» السريع، لا سيما خلال عام من الآن. فسياسة الولايات المتحدة وتحالفها الغربي ساهمت في قيام دولة فاشلة في العراق إثر تدمير البنى التحتية بدءاً من غزوه في 2003، ودعمها لمجموعات الإسلاميين المتطرفين بدلاً من المعارضة المدينية المعتدلة حديثة الولادة في سورية ضد نظام الأسد. هذه السياسة أفسحت في المجال لنهوض «داعش». في كل الأحوال السؤال الملح لا يزال هو: هل يمكن إلحاق الهزيمة بـ»داعش» وكيف، ومن هي الجهة- أو الجهات- التي يمكن أن تحقق ذلك؟ هذه حرب لن تحسمها الولايات المتحدة ولا أي من حلفائها، كما أنها ليست حرب أميركا والحلفاء وحدهم. وفي ضوء العجز الواضح لحكومة بغداد عن استخدام قوات عسكرية كبيرة، وتفكك السلطة المركزية في سورية إذ أن لا سلطة راهناً لحكومة دمشق فوق حوالى ثلثي البلاد، وتعهد دول التحالف بعدم إرسال قوات برية إلى مسرح القتال، لا تبدو هناك قوة أخرى في المنطقة قادرة على الوقوف في وجه زحف «داعش» بسرعة غير حكومة إقليم كردستان. لقد أكدت البيشمركة على قدرتها الصلبة في وقف تقدم عناصر «داعش» باتجاه مدينة كركوك الغنية بالنفط وبضع قرى وبلدات تقع في محيط الموصل، إضافة إلى خوضها معارك عدة إلى جانب مقاتلين أكراد سوريين في شمال سورية ضد «داعش». وقد يستطيع الأكراد في ضوء تبلور تشكيلات ميليشيا محلية من أكراد سورية في أجزاء تقع في شمال شرقها، وتسلل بعض أكراد تركيا للانضمام إلى إخوانهم الأكراد في سورية، من تشكيل قوة وطنية ضاربة للمرة الأولى في تاريخ المناطق الكردية في الدول الثلاث: العراق وسورية وتركيا. في الواقع لا توجد قوة إقليمية أخرى في المنطقة للقيام بهذا الدور الاستراتيجي والحيوي. ولا شك في أن هذا الأمر يقدم البديل المقبول والطبيعي لإنزال قوات غربية/عربية على الأرض لخوض الحرب ضد «داعش». فالأكراد، بالإضافة إلى التأهيل السياسي والعسكري، هم الأدرى والأكثر خبرة بطبيعة أراضي المنطقة وجغرافيتها السياسية وتشكيلاتها الديموغرافية. كما أن قيادة «البيشمركة» في حربها ضد «داعش» تخوض حرباً أخرى تؤسس من خلالها لقيام دولة كردستان المستقلة فوق الأراضي التاريخية للأكراد، إذ أنهم يخوضون حرب حق تقرير المصير في آن واحد حتى وإن لم يعلنوا ذلك رسمياً. فإذا قامت حكومة أردوغان بتحول صادق وحقيقي ملائم في سياستها الراهنة المترددة وسمحت لبضعة آلاف من ملايين أكرادها الراغبين في التطوع إلى جانب «البيشمركة» وأكراد سورية في القتال ضد «داعش»، فإن هذا سيُحدِث تحولاً نوعياً في الحرب. ولكن هل تفعل أنقرة ذلك؟