مرة جديدة يرتكب الرئيس باراك أوباما خطأ ويعترف بأنه أخطأ في تقدير حجم القوى التي يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش). وهذا الأمر يؤكد استمرارَ سلسلة الإخفاقات للإدارة الأميركية في عهد أوباما بولايتيه. وبناء على اعتراف أوباما بهذا الخطأ كيف يتم التنادي إلى إقامة «تحالف دولي» يضم 40 دولة، ثم يتضح لاحقاً أن المعلومات عن مقاتلي «داعش» وتالياً «جبهة النصرة» غير دقيقة، وبالتالي كيف تقوم قوات هذا التحالف بقصف بعض مواقع «داعش» سواء في العراق أو في سورية؟ في الماضي وفي معرض الحديث عن القوة الهائلة للولايات المتحدة كان يقال: إن الأقمار الاصطناعية الأميركية بالإمكان أن تصل استخباراتها إلى معرفة ما الذي يجري بين الرجل وزوجته في غرفة النوم! فأين هذا الكلام مما نشهده من الفشل الذريع في الجانب الاستخباراتي الأميركي؟ هذا الأمر يؤكد استمرارَ سلسلة الإخفاقات الأميركية في الشرق الأوسط ككل، وقد بدا «التحالف الدولي» كقوى هجينة من هنا وهناك تعمل فقط من الجو لمطادرة «داعش» و «النصرة» و «خراسان»، وهو الاسم الجديد لتنظيم إرهابي جديد يضاف إلى سائر التنظيمات الإرهابية المنتشرة في طول المنطقة وعرضها. وفي مختلف التحليلات الموضوعية يؤدي الأمر بنا إلى الاستنتاج الآتي: أن معركة مواجهة الإرهاب طويلة ومعقدة ويجرى الحديث عن «أشهر عدة على الأقل، بل سنوات»، والسؤال البدهي قبل الغوص في العمق: ما ومن الذي يضمن أن الآتي من تطورات تستهدف المنطقة سيبقى على حاله؟ وبالتالي ما مصير الدول المنخرطة في «التحالف» ودورها في القضاء على هذه العناصر الإرهابية التي أعدت نفسها جيداً، ثم ظهرت إلى العلن في شكل أثار المخاوف لدى كثيرين من أهل بعض المناطق في سورية والعراق ممن يعانون ويلات هذه التنظيمات. وفي عمق المعارك والقصف الجوي يقول خبراء ومختصون، إن عمليات القصف مهما تعددت وتلاحقت لن تكون كفيلة بالقضاء على عناصر هذه التنظيمات كافة، لأن ما من حرب جوية فحسب تمكنت من الحسم العسكري مع هؤلاء المقاتلين. ويصر الخبراء العسكريون على الأقل على أن العمليات تحتاج لكي تكونَ منتجة إلى قوات برية مدربة تدريباً جيداً لهذا النوع من القتال. هنا، يجرى التداول في احتمال قيام تركيا بإرسال الآلاف من جنودها إلى المعارك البرية. ودعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد اجتماعات ومداولات الأمم المتحدة في نيويورك إلى «المغامرة البرية» في هذه الحرب القائمة. ولفهم طبيعة ما يجري في تلك المناطق يجب الإضاءة عليها ولو في شكل معلومات استراتيجية. فأقرب نقطة لوجود التنظيم العسكري تقع على مساحة 8 كيلومترات مربعة عن الحدود التركية، داخل الأراضي السورية، فيما يسيطر المقاتلون الأكراد على معظم النقاط الحدودية الشمالية مع تركيا، فيما يسيطر مقاتلو «لواء التوحيد» الذين انضموا إلى «الجبهة الإسلامية» العام الماضي على معبر أعزاز مع تركيا في ريف حلب الشمالي. وعلى الصعيد اللوجيستي والميداني كرّس «داعش» جهوده أخيراً للسيطرة على مدينة كوباني أو عين العرب ذات الغالبية الكردية في أقصى الشمال السوري قرب الحدود التركية. وإذا كان هناك من تداخل بري في المعارك الدائرة فلا فائدة عسكرية ترجى إلا بنشوب حرب برية، وتبدو تركيا كأنها الدولة الوحيدة المهيأة لها. لقد لاحظنا تركيز ضربات القصف الجوي على كوباني ويعمل «داعش» على حشد المقاتلين بعد طرد قوات النظام من مواقعها العسكرية في الرقة حيث يطلق التنظيم الهجمات للسيطرة على المدينة والقرى التابعة لها. وحيث تركزت المعارك في الأيام الأخيرة، تعود أهميتها الاستراتيجية إلى أنها تتضمن معبراً حكومياً مع تركيا تحيط به مصادر المياه كونها تقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات لكنها لا تتضمن موارد طبيعية كالنفط والغاز، الأمر الذي جعلها ملاذاً لعشرات آلاف اللاجئين من الحرب السورية. وقبل الهجوم الأخير على كوباني وصل عدد سكانها إلى أكثر من ربع مليون بينهم عدد كبير من اللاجئين، نظراً إلى الهدوء الذي تتمتع به المنطقة حتى الآن. يبقى السؤال الكبير: هل تقدم تركيا على الانخراط في حرب برية مع سورية؟ وقد تقدم رئيس الحكومة التركية الجديد أحمد داود أوغلو باقتراح إلى البرلمان التركي للسماح للجيش بالتدخل الفعلي في سورية لحماية أمنها القومي، وتصر تركيا على التدخل البري في سورية وإنشاء منطقة عازلة عند الحدود. ويقول مصدر تركي مقرب من أوغلو إن القوات التركية جاهزة في أي لحظة لحماية المواطنين الأتراك إذا ما استمر تساقط القذائف على المناطق الغربية من تركيا، وهي حاضرة لأن تدخل الأراضي السورية في أي لحظة لحماية المواطنين. وتقول تركيا، على ما تقول مصادر أنقرة، إن الدبابات يمكن أن تدخل سورية في أي لحظة لحماية المواطنيين الأتراك. وتعلق أنقرة أهمية كبيرة على ما تسميــه «ضغط الرأي العام الأميركي، والذي يطــالب واشنطن بالحسم السريع، وهذا لا يكــون إلا عبر تدخل فاعل ومباشر وليس من خــلال ضربات جوية فحسب، من شأنها أن تضعف المعارضة السورية في شكل عام ولكن يستفيد منها النظام في شكل أكبر». لقد أرسل الجيش التركي دبابات إلى الحدود، إضافة إلى الإجراءات الأمنية في المنطقة (بولاية شانلي أورفا). واستناداً إلى وكالة الأناضول، شوهدت تحركات عسكرية عند موقع يومورتاليك المطل على كوباني. ويقول مراسل الوكالة التركية: لقد أرسلت 35 دبابة إلى منطقة الحدود، وقوات الأمن التركية تراقب ما يجري في كوباني بالمناظير المكبرة. إذاً، تبين من النظرة الاستراتيجية العملانية للموقف أن تركيا الدولة الوحيدة القادرة على خوض الحرب البرية، لكن السؤال: هل تقدم على ذلك، أم تخشى نتائج المواجهة مع «داعش» و «النصرة» ومن تبقى من «خراسان» التي نقلت بعض الأخبار أن زعيمها قتل في الضربات الجوية الأميركية الأخيرة؟ المراقبون يتحدثون عن تيارين يتنازعان الرئيس أردوغان: الأول بعث أمجاد السلطنة العثمانية في عهده بصفته «السلطان الجديد»، والأمر لن يكون سهلاً على القوات التركية المقاتلة. والخيار الثاني يتمثل بالامتناع عن دخول القوات البرية الميدان فعلياً وانتظار نتائج القصف الجوي لطائرات التحالف الدولي؟ لقد رفع القادة الأتراك مستوى تصريحاتهم حيال الوضع السوري وتنظيم «داعش» الذي بدأ الإعلام التركي يصفه بــ «الإرهابي»، وذلك بعد إطلاق سراح 46 رهينة تركياً كان التنظيم يحتجزهم في القنصلية التركية في مدينة الموصل العراقية. ويمارس أردوغان صفة القيادة المطلقة بعد انتخابه رئيساً في الانتخابات الأخيرة، وينتقد التركيز على «النتائج بدلاً من الأسباب» حيث يقول: «إن الجميع يتحدث عن النتائج لكن أحداً لا يأتي على ذكر المسببات (...) عن كيفية ظهور (الإرهاب) وكيفية وصوله إلى هذا الدرك»، ويضيف: «لا أحد يناقش بعمق كيف أمكن هؤلاء الشباب ارتكاب جرائم فظيعة». ويقول أوغلو: «إننا نعارض كل فعالية تسعى إلى التعريف بالإسلام بطريقة خاطئة». لكن تركيا تخشى في شكل واضح من أعمال انتقامية من «داعش» وسواه من التنظيمات المتطرفة في حال شاركت في الضربات الجوية من دون تأمين الحدود البرية التي تمتد لحوالى 900 كيلومتر مع سورية. وبعد... أولاً: ليس من قبيل التسليم بـ «نظرية المؤامرة»، بل من منطلق الإحاطة بالمشهدية العامة للأوضاع، فإن بعض ما يرافق الكلام عن دور «قوات التحالف» ضد «داعش» وإخوانه ينطوي على تأكيد بعض الهواجس. وعندما يردد كثيرون من المعنيين بأزمة المنطقة أن القصف الجوي ضد تجمعات مقاتلي التنظيم لا يستهدف هذه التجمعات فحسب، ففي هذا التساؤل كثير من الصحة، حيث إن بعض دول التحالف تضع في أولى أولوياتها، القضاء على نظام الرئيس بشار الأسد، وفي طليعة هؤلاء الرئيس التركي أردوغان الذي لا يخفي موقفه الداعي إلى إطاحة النظام السوري، ضمن المعادلة الآتية: ما لم تتمكن من إنجازه خلال الحرب على سورية وفيها خلال السنوات الأربع الماضية، فقد حان الوقت لتحقيقه الآن من زاوية الكيديات السياسية في المنطقة. ثانياً: إن حديث الرئيس باراك أوباما عن طول الفترة الزمنية لمحاربة إرهاب «داعش»، والتي قد تستمر لسنوات عدة، هو مؤشر واضح إلى أن منطقة الشرق الأوسط لن تعرف الاستقرار لوقت طويل، مع ما يعني ذلك من تداخل أزماتها وتقاطع أو تضارب المصالح في واحد من أكبر فصول «لعبة الأمم» التي تستهدف المنطقة حالياً، ولوقت طويل آت. وعندما يدور التاريخ دورته تصعب السيطرة على ما ستؤول إليه الأوضاع العامة من المحيط إلى المحيط ومن الخليج إلى الخليج. وفي الكلام الأخير: القضاء على تنظيم «داعش» - هذا إذا تم - لا ينهي أخطار الإرهاب. وحذار من «الداعشية» ومن «الداعشيين» الذين يتناسلون أكثر فأكثر كل يوم.