قلق الأسئلة بين السياسي والمعرفي: كثيرا ما ينتابني كألم لئيم عدد من الأسئلة المقلقة والمحرجة حيال مفارقة غموض وقسوة التحولات السياسية حولنا وبين توسع الجامعات الكمي كجامعاتنا في مجال الدراسات الاجتماعية مباني وأعضاء هيئة تدريس وإداريين وطالبات وطلاب. ويرتفع منسوب القلق خاصة مع بقاء الحال الأدائي والمضموني لتلك التخصصات على حاله منذ بدايات تأسيس أقسامها بالجامعات أو تراجعه عن تلك البدايات التي قد تكون في الغالب تميزت كمعظم البدايات بالحماس والتفاؤل والعفوية. وقد تثير تلك الأسئلة حتى قبل أن أطرحها تساؤلا محقا لمن ينظر إلى المبنى من خارج جدران التجربة التفاعلية اليومية، كأن يقال كيف يمكن أن يكون واقع الأقسام يشبه البدايات بعد مايفوق ربع قرن من تأسيس معظمها خاصة وأن جامعاتنا تسابق جامعات العالم العريقة في توفير المباني اللائقة والوسائل التقنية المعاصرة بل وأصبح لها رصيد في الجودة والاعتماد الأكاديمي. (أبقوا مع السؤال). تغريدة من يناصح من: غير أن ما أقنعني بإعادة فتح موضوع قلق الأسئلة الذي سبق أن طرحته في بحث أكاديمي من خلال سؤال استكشافي، «هل العلوم الاجتماعية في جامعاتنا علم معرفي وميداني أو حالة توحد «؟، هو شرارة أحد التغريدات التي جرى تداولها على تويتر في تساؤلها الاستنكاري عن أسباب استبعاد اختصاصي علم الاجتماع وعلم النفس من لجان التناصح التي استحدثتها الدولة لمقاومة انخراط الشباب السعودي في أعمال العنف السياسي والإرهاب الاقتتالي. والحقيقة أن تلك التغريدة شكلت محرضا لأن أقدم محاولة لقراءة سيسيولوجيا الدراسات الاجتماعية في جامعاتنا ومجتمعنا، ليس لأنني أتفق مع تلك التغريدة أو أخالفها على وجوب الاستعانة بمناصحين من تلك التخصصات للشباب المتشدد، ولكن لأنها أشارت من طرف غير خفي لتلك الهوة العميقة بين الواقع واعتمالاته وبين أقسام تلك التخصصات بجامعاتنا التي يفترض أنها تخصصات في صلب الواقع الاجتماعي والسياسي بل والثقافي طالما أنها تعنى بالعلوم الاجتماعية. وبناء عليه فإن موضوع من يناصح من ليس موضوعي في هذا المقال لا من قريب ولا من بعيد إلا بقدر مايشير إلى الفجوة بين أصحاب المعرفة وأصحاب السلطة. المدارس النقدية للعلوم الاجتماعية وقيادة التحولات: فالأساس أن للدراسات الاجتماعية بمختلف المجتمعات دور البطولة في التعامل مع الواقع قراءة وتحليلا ورؤية تنبؤية ورؤية استراتيجية وتكتيكية سواء في قاعات الدرس أو في البحوث أو في الحضور الميداني المختص والعام معا. لذلك نرى أن معظم مدارس العلوم الاجتماعية الحديثة وتياراته ومساراته الجادة قد كانت من طلائع القوى النقدية التي قادت عملية التنظير معرفيا والتغيير ميدانيا. فكانت أقسام العلوم الاجتماعية في الجامعات الغربية من السوربون إلى كنت ومانشستر ومن كمبريدج وأكسفورد لجامعة كولمبيا ورييد وبرنستون وسواها منصات انطلاق للعديد من الطرح النقدي الاستبصاري المستنير ومثلهم في ذلك المراكز والمعاهد الأكاديمية والثقافية مثل معهد جوته ومعهد الدراسات الاجتماعية بألمانيا الذي ولدت في أحضانه مدرسة فرانكفورت النقدية التقدمية في مجال العلوم الاجتماعية. وقد كان لمنظريها المؤثرين أمثال ماكس هوركهايمر، والتر بنجامين، وهيربرت ماركوز، ويورغن هابرماس وإرك فرووم دور بارز في تقديم رؤى مجددة جذرية في مجال علوم الاجتماع والسياسة ومنها مقاومة النازية قبل هزيمتها وومقاومة ترسبات الفكر النازي حتى بعد زوالها. علومنا الاجتماعية نائية وقت الأزمات: أما إذا نظرنا إلى القائم بل المستتب إن لم يكن الآسن في حقيقة أداء ومضمون الدراسات الاجتماعية بالمجتمع السعودي وخاصة في مجال التخصصات ذات الطابع التنظيري، فإننا سنجد اتسام الغالبية العظمى منها بالسمة المدرسية التي هي بطبيعة الحال أقل من الاستحقاق الأكاديمي لأداء الجامعات. فقاعات واسعة مؤخرا وسبورات ذكية وبروجكترات أكثرها مسخرة لإعادة دروس رتيبة بأداء يكون أحيانا أشد رتابة لمدارس ونظريات ومناهج العلوم الاجتماعية الكلاسيكية وخاصة ذات النزعة التقليدية المحافظة دون تماس يذكر بين المجال المعرفي وبين الواقع الميداني الموار المحتدم الذي نعيشه في العالم وفي عالمنا العربي وبالمجتمع السعودي. بما يبدو معه وكأن مايجري على الساحتين السياسية والاجتماعية وعلى الخارطة الجغرافية من تحولات فادحة ومن تسوناميات مريعة شأن لاشأن لأقسام الدراسات الاجتماعية به ولا من باب الفضول المعرفي. وهذا ماحداني في البحث المشار إليه قبل سنوات من الطوفان الذي نشهد وتشهد المنطقة العربية الآن أن أستنتج بأن العلوم الاجتماعية بجامعاتنا وقد كنت أخذت جامعة الملك سعود كدراسة حالة تعيش وضعا متأزما مزمنا من «الأوتزم» وهو ما يترجم عادة بحالة «التوحد» بمعناه الإكلينيكي أي حالة من الاعتزال والانكفاء بعيدا عن خضم الحياة الاجتماعية والسياسية العامة. فما الذي يجعل كل هذه الأحداث الجسام تجري في مجتمعنا ومحيطنا من التحالفات السياسية إلى الإرهاب إلى الحروب إلى تبدل القيم إلى ثورة الاتصالات والمعلومات إلى سقوط دول إلى ظهور قوى اجتماعية وتيارات سياسية جديدة إلى فراغات غياب شخصيات مركزية في نظامنا السياسي مثلا إلى تفاقم مظاهر الطفرة النفطية الثانية فيما ليس من جامعة ولو من باب الاجتهاد أو التجريب تجرؤ على تبني أحد أقسامها للعلوم الاجتماعية أي مؤتمر أو ندوة أو حوار محلي ناهيك عن عربي أو أقليمي أو عالمي في أي من تلك القضايا. جدل المعرفة والواقع: لقد كان في رواية شقة الحرية لغازي القصيبي يرحمه الله انعكاس للحياة الطلابية التي كانت تعيشها الجامعات المصرية في مرحلة الخمسينات حيث كانت الجامعة منبرا للسجال الفكري والثقافي والأكاديمي وطليعة لما يدور بالمجتمع. وفي بعض روايات تركي الحمد صورة عن الحياة الطلابية بجامعة الملك سعود بالستينات التي لم تخل على مايبدو بسبب طبيعة المرحلة وجدت وجود الجامعة من مساحة للتقارب في مجال العلوم الاجتماعية بين الجانب المعرفي والجانب الميداني للحياة الاجتماعية والسياسية بالمحيط العربي آنذاك إن لم يكن بالمجتمع السعودي نفسه. أما في رواية سعد الدوسري الرياض 91 وكذلك في كتاب حصة آل الشيخ وعائشة المانع السادس من نوفمبر فإننا لن نعثر إلا على بيانات جافة لإحدى الجامعات ومواقف متزمتة إن لم تكن نائية شائحة بوجهها عن تلك اللحظة التاريخية المحتدمة التي كانت تمر بها منطقة الخليج والمجتمع السعودي على وجه التحديد. و المقارنة الموجعة أنه بينما ترتفع أسهم وأهمية أقسام العلوم الاجتماعية إبان الأزمات بالمجتمعات المتقدمة في قراءة هذه الأزمات والعمل على الخروج منها وتأسيس فكر استرتيجي لعدم العودة إليها، فإن أقسام هذه العلوم إبان الملمات بالمجتمعات المتخلفة، تصبح مفرخة لأفواج من العاطلين عن العمل ومكبا لإعادة إنتاج الكبت واللامبالاة بصور قد لاتكون سوية مما يزيد من حدة التأزم لاسمح الله. من يجرؤ على الكلام: وفي هذا السياق نأمل أنه لربما يستطيع نفر من المحللين الأكاديمين مثل د. محمد القنيبط، د. خالد الربيعان، د.خالد الدخيل، د.هناء المطلق، د.سلوى الخطيب ,د. عزيزة النعيم .د. نورة المساعد، د. فاتنة شاكر، د. منيرة الناهض د. المزيني، د. سعد الطخيس د. معجب العدواني ,د. يوسف السيف، د. الجازي الشبيكي وأخريات وآخرون بلاعدد أن يكتبوا على الأقل تجاربهم إن لم يكن قراءتهم التحليلية لعلاقة التعالق أو القطيعة بين العلوم الاجتماعية بالأقسام التي عملوا بها وبين المجتمع السعودي على المستوى الإبستمولوجي/المعرفي والمستوى الإمبريقي /الميداني في علاقتها بالسؤال الجوهري لتحديد طبيعة هذه العلاقة وهو سؤال الحرية والاستقلالية في الواقع الاجتماعي والسياسي المعطى. فمن تجربتي لازال الكثير ليسجل إن لم يكن ليحلل عن حالة أقسام العلوم الاجتماعية بالجامعات بالمجتمع السعودي إبان مرحلة الطفرة النفطية الاولى وفي مرحلة مابعد احتلال الحرم، وفي بداية مد الصحوة، وإبان ومابعد حرب الخليج الثانية وصولا لعهد الملك عبدالله بطروحاته الإصلاحية إبان الطفرة النفطية الثانية وإمتدادا لتدعيات حملات الإرهاب الدولية واندلاعات الربيع العربي وتداعياته، بما فيها مواجهاتنا اليوم مع داعش ضمن التحالف الدولي . فأهمية تحديد طبيعة العلاقة بين العلوم الاجتماعية بالجامعات وبين المجتمع هي محاولة لاستعادة الدور التنويري والفكري المفقود للمنابر العلمية، وهي محاولة لأن نفهم مانوع التحولات التي تجري بمجتمعنا ومنطقتنا وإلى أين وبمن ولمن و إلى متى لاندقق في قراءة الإشارات ولا نصدق بتحركات الشجر؟؟؟