النفس البشرية تحتاج إلى كثير من التذكير المستمر، ولذلك تجد أن الشريعة الغراء تتفهم حاجة الإنسان إلى هذا التذكير بتنوع العبادات، وباختلافها عن بعضها البعض في الشكل والأداء، ولكن يبقى المضمون واحدا، وهو توثيق الصلة الروحية مع الخالق سبحانه. ولذلك نجد شعائر الإسلام متنوعة في مواسم وأوقات مختلفة لتحافظ على روح المسلم من الضعف أو الفتور، فقبل شهرين ودعنا موسما روحيا عظيما وهو رمضان، وها نحن الآن نستقبل شعيرة أخرى ألا وهي الحج. والشعيرة في العموم هي ما ندب إليه الشارع وأمر بالقيام به، وهي ترتقي بالمسلم في درجات السمو الروحي وترفع من منزلته، ولذلك قال سبحانه وتعالى «ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب». إننا لو تأملنا جميع الشعائر الإسلامية لوجدناها قامت وفق نظام محدد سواء كان زمانيا أو مكانيا. والحج يتميز بأنه شعيرة تحدث في زمن ووقت ومكان محدد، وهذه إشارة واضحة على أهمية النظام في الإسلام. النظام الذي نحن كمسلمين في أشد الحاجة إليه في وقتنا المعاصر حيث غزت العشوائية معظم جوانب حياتنا. إن العشوائية التي يعيشها بعضنا اليوم هي بعيدة كل البعد عن أبجديات النظام، فقد امتدت هذه العشوائية من الحياة الشخصية إلى المهنية، وأصبحت ظاهرة اجتماعية، بل هي وللأسف على مستوى أممي، وصارت صفة ملتصقة بنا كمسلمين. ويبدو ذلك جليا في التجاوزات التي نمارسها بشكل يومي على أي نظام قائم من حولنا. وتجدنا نتساءل في كثير من المواقف عن كيفية مخالفة النظام، والبحث عن مخارج وثغرات فيه، قبل السؤال عن الطريق الصحيح والطبيعي لتطبيقه. الأمر العجيب والغريب أن الحج يستطيع في كل موسم أن ينظمنا وفي وقت وجيز، ويجعل لنا هدفا وخطة دقيقة نسير جميعا عليها، وعلى نسق واحد، ويشعرنا حقيقة لا مجازا أننا سواسية كأسنان المشط. القوي والضعيف الغني والفقير كلهم حريصون على اتباع النظام بحذافيره وبتفان، أليست هذه معجزة مذهلة تحسب لك أيها الحج العظيم الراقي؟!. والأمر الآخر المذهل أن الحج نجح في أن يجعلنا نشعر بأننا كالجسد الواحد على اختلاف أطيافنا وأشكالنا ومشاربنا، في حين فشلت في هذه المهمة العشرات، بل مئات من المؤتمرات والاتفاقيات التي أبرمناها فيما بيننا!!. ومع هذا النظام المذهل الدقيق للحج، فهناك إشراقة أخرى له، وهي أننا متفقون في الأركان العامة الجامعة، ولكن هناك أيضا مساحة ورحابة للاختلاف والتيسير، ولا أدل على ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام «افعل ولا حرج»، وقوله سبحانه وتعالى «ما جعل عليكم في الدين من حرج». وهذه هي روح نظام الحج التي هي أسمى وأجمل نظام ممكن أن يطبق على كثير من أنظمة حياتنا. والمبدأ هنا واضح وجلي وهو أننا نتفق في الأصول العامة ويعذر بعضنا البعض في الاختلاف غير الشاذ في الفروع. وأمر آخر مهم جدا ظلت أنظمة العالم تنادي وتفتخر به، وهناك دول كثيرة اتخذته شعارا لها، والبعض منهم طبقه جزئيا، ومنهم من استخدمه شعارا يلوح به فقط! ألا وهو مبدأ المساواة. وقد سبقهم الحج في ذلك نظريا وتطبيقيا منذ أربعة عشر قرنا. وأكده القائد العام للبشرية محمد عليه الصلاة والسلام في خطبته في أيام التشريق حيث قال: «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى». الحج يملك قوة روحانية مبهرة وجبارة في توحيدنا تحت شعار العدل والمساواة والإخاء بينما فشلت كثير من أقوالنا وأفعالنا في ذلك.