كنت أقود سيارتي وسط المدينة وأمامي سيارة يترنح صاحبها داخلها وكأنه يرقص على إيقاع أغنية. انتقلت عدوى الرقص من الراكب إلى المركبة. فأصبح سائقها يتحرك يمنة ويسرة غير مكترث بي وغيري من قوافل السيارات التي كانت تراقب هذه الرقصة بازدراء وانفعال. حملت كاميرا جوالي والتقطت مقطع فيديو لما يلوح أمامي وأرسلته لمجموعة الأسرة في تطبيق “واتساب”، شاجبا ومستنكرا تصرفات هذا الشاب متهما إياه بتهم أقلها وطأة، استهتاره. الصدمة كانت عندما توقفت السيارة عن الرقص. وترجل منها سائقها طالبا النجدة. نزلت وبعض سائقي السيارات المجاورة واكتشفنا أن الرجل يعاني أزمة قلبية، تتطلب إسعافا عاجلا. انتقل المريض إلى المستشفى، وانتقلت أنا إلى صوابي. أدركت أنني ارتكبت ذنبا كبيرا بإعلاء سوء الظن على إحسان الظن. إنني أتساءل دائما، كم مرة نسيء الظن في حق أهلنا وأصحابنا؟ كم مرة ظلمنا الآخرين دون أن نتحقق؟ نبني أحكامنا على قشور ومظاهر. يقول أحد السلف: لو رأيت أحد إخواني ولحيته تقطر خمرا لقلت: ربما سكبت عليه. ولو وجدته واقفا على جبل وقال: أنا ربكم الأعلى، لقلت: إنه يقرأ الآية. كان طلحة بن عبد الرحمن بن عوف أكرم قريش في زمانه، قالت له امرأته يوما: ما رأيت قوما أشد لؤما من إخوانك. قال ولم ذلك؟ قالت: أراهم إذا اغتنيت لزموك، وإذا افتقرت تركوك. فقال لها: هذا والله من كريم خصالهم وطيب سجاياهم. يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم. ويغادروننا في حال عجزنا عن القيام بحق وفادتهم. علق الإمام الماوردي على هذه القصة في كتابه أدب الدنيا والدين، وقال: انظر كيف تأول بكرمه هذا التأويل حتى جعل قبيح فعلهم حسنا وظاهر غدرهم وفاء. لا يوجد شيء يكدر نفس المرء كالظنون السيئة. فهي تكدر خاطره وتلوث يومه، وتملأ قلبه بالسواد والحلكة. ولا يوجد شيء يريح النفس بقدر إحسان الظن فهو يشغل المرء بعمله وإنتاجه لا بمحاكمة النوايا والإذعان للوساوس. إننا بحاجة ملحة إلى أن نستعيد القيم العظيمة التي ورثناها من السلف الصالح. إننا نملك إرثا عظيما لكن لا نستثمره.