محمد الدحيم ونحن نعيش هذه الأيام لحظات مقدسة في أيام العشر من ذي الحجة، التي قال فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام) -يعني أيام العشر- قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) [رواه البخاري] ويأتي التسبيب الفقهي لهذا الفضل الزمني في هذه العشر على نحو ما يقوله الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره) وهكذا من يستمع لخطب الجمعة أو الحديث المنقول عبر الأثير مسموعاً ومشاهداً، أو في نشرات الإرشاد ورسائله. تغلب عليها اللغة الفقهية الأحكامية، وهي وإن كانت مهمة فليست أولاً. إذ لا يمكن للأحكام أن تكون صحيحة إلا باستقبال الروح والوجدان لها بالحب والبهجة (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) وحتى الذكر الذي هو جوهر الوجدان في عشر ذي الحجة وأيام الحج تحول إلى جدل فقهي أفسد ذوقه وروعته، فالذكر علاقة بين الذاكر والمذكور(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، وهو سر الأسرار وفواتح العطاء، وفي حديث ابن عمر رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (يقول الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)، وعندما يغيب المعنى الوجداني للعبادات تتحول إلى جفاف في الأداء تمله النفوس وتتثاقله، فالعبادات من خلال روتينية الأداء تعاني من ضمأ الشعور. وهو ما ينتج سلوكاً إنسانياً صلباً لا يعكس الحكمة الإلهية من الخلق والتشريع. إن وعي الحكمة الروحية للتشريع وللزمن وللمكان يخلق في الإنسان طهراً أخلاقياً متواصلاً مع جمال الكون وجلال خالقه، فـ(الله جميل يحب الجمال) والسلوك إليه يجب أن يكون عن طريق الجمال، وقد قال العارف بربه محمد -صلى الله عليه وسلم-: (تَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ)، أي اسلكوا الطرق الجميلة في الطلب. ونحن ندرك أن الخطاب ليس إلا إعلاناً لما يتشكل في العقل أو في النفس أو فيهما جميعاً من المفاهيم، ويتمظهر عنهما من السلوك. وهو أي الخطاب حين يكون لطيفاً جميلاً جاذباً فإنه يوحي بجمال النفس والعقل وسكونهما، والعكس بالعكس تماماً. والمتدين بخطابه هو من يحمل مسؤولية الوعي الجمالي في خطابه وما يصنعه من تأثير في المتلقي له من مستمع وقارئ. وحين يصبح الوعي الجمالي مكوناً أساسياً من مكونات البناء الروحي والقيمي للثقافة الإنسانية، وهو ما يميز ثقافة مجتمعية عن غيرها. فإننا سننعم بعبادات وجدانية حقيقية. وأمام كل ذلك لا بد من إدراك يأتي على كل المستويات لأهمية هذا الموضوع، ولا بد من تناوله بالدرس والبحث، ثم الحوار والتداول، ثم السلوك العملي. إننا في موسم الحج أمام فرصة لا مثيل لها لتكثيف وعي العبادة الوجدانية من خلال الحج الروحي وليس مجرد الحج الفقهي. فقد كان حال سيدي وحبيبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج حال العابد المحب في مقام القرب من لطف الجلال وفيض الجمال. حال من ملأ المكان والزمان فرحاً بالله وحباً له. وحين ترد إليه أسئلة المستفتين في فقه الحج يكون جوابه: (افعل ولا حرج)، إنه التيسير. وفوق ذلك رسالة إلى توجيه الانتباه إلى الأهم، وهو حج القلوب إلى علام الغيوب، والاسترواح بالسكينة، والشعور بتجليات الأنوار الإلهية. أي أنه معنى المعنى الذي يتجاوز علوم المدركات إلى عالم الملكوت في رحلة بين الأرض والسماء. لا يحتمل العقل وصفها ولا يعرف طعمها من لم يذقها.