يلقي كتاب «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين» الضوء على حقيقة العلاقة بين بريطانيا - ثم الولايات المتحدة- وجماعة الإخوان المسلمين حتى قبل تأسيس الجماعة عام 1928، من خلال السعي لإيجاد مثل هذا التنظيم. الكتاب هو من تأليف مارك كورتيس المؤلّف والصحفى والمستشار الذي عمل زميلًا باحثًا في المعهد الملكي للشؤون الدولية. وهو يقدم الأدلة الدامغة على أن الغرب هو الذي يقف وراء تأسيس معظم الحركات الإسلامية الراديكالية التي ظهرت في المنطقة، أو انبثقت، أو انفصلت عن الجماعة الأم رغم رفعها شعارات العداء للغرب. القراءة المتعمقة للكتاب الذي صدرت طبعته الإنجليزية الأولى عام 2010 تحت عنوان: secret affairs : Britain›s collusions with radical Islam: «العلاقات السرية: تواطؤ بريطانيا مع الإسلام الراديكالي»، تكشف عن أن مؤلفه (كورتيس) يحذو حذو الصحفي البريطاني في «الديلي ميرور» جون بيلجر -الذي اقترن اسمه بالكشف عن الدوافع الحقيقية للحرب الأمريكية في العراق- من خلال فضحه للأدوار التي لعبها البريطانيون في العهود الاستعمارية المظلمة عبر سياستهم الخارجية التي تطورت بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بعد نهاية الحرب الباردة من خلال أساليب وآليات جديدة، لكنها ظلت تعتمد على شعار «فرق تسد». يمكن الوقوف على أهمية الكتاب من خلال وصف المفكر الأمريكي البارز نعوم تشومسكي له بأنه « عمل قيم ومهم، جاء نتيجة البحث المضني في الملفات التي رفعت عنها السرية حول السياسة البريطانية تجاه العالم الإسلامي على مدى نصف القرن الماضي، وعرضه صورة أكثر دقة وتوازنا من التفاهات الضحلة التي كانت تصدر عن الرئيس بوش تحت مسمى الحرب على الإرهاب». وينبغي الملاحظة هنا أنه لا يقصد بالملفات التي رفعت عنها السرية الملفات البريطانية فقط، وإنما العديد من الملفات الأوروبية، فقد كشفت الملفات السرية السويسرية على أن سعيد رمضان رئيس التنظيم الدولي للإخوان (وزوج ابنة حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان) كان يتلقى دعمًا ماليًّا من الحكومة السويسرية. كما ينبغي الإشارة أيضًا إلى أن عرضنا للكتاب يهدف بالأساس الى إماطة اللثام عن العلاقة السرية بين جماعة الإخوان المسلمين وبريطانيا والولايات المتحدة، بما يساعد على فهم تطورات الأحداث التي شهدتها مصر في الآونة الأخيرة، وما كشفته عن دعم أمريكي - بريطاني (للجماعة). ويتعرض الكتاب بنسخته العربية (575 صفحة) التي ترجمها الأستاذ كمال السيد، وصدرت طبعته الثانية المترجمة مؤخرًا عن المركز القومي للترجمة في جمهورية مصر العربية -من خلال الوثائق- للدور البريطاني فى التآمر مع تلك الجماعات الإسلامية فى أفغانستان، وإيران، والعراق، والبلقان، وسوريا، ومصر، وإندونيسيا، ونيجيريا، لتحقيق مصالحها الإستراتيجية، والسياسية، والاقتصادية، ثم تحولها إلى أداة طيعة في يد الأمريكيين، بدءًا من نهاية الخمسينيات، وذلك من خلال تسعة عشرة فصلًا. ويستخدم المؤلف البريطاني وصف «الإسلام الراديكالي» و»المتأسلمين» للتدليل على الحركات الإسلامية المتطرفة، التي تعتبر جماعة الإخوان المسلمين أكثرها نفوذًا وحضورًا، خاصة بعد أن تطورت لتصبح شبكة لها تأثيرها على النطاق العالمي. ويوضح المؤلف الدرس الهام الذي لم يستوعبه قادة الجماعة ويتلخص في أن بريطانيا، ثم الولايات المتحدة فيما بعد، دأبتا على استخدامهم كأداة لتنفيذ خططهما في المنطقة، ثم نبذهم والتخلص منهم بعد إنهائهم للمهمة الموكلة إليهم، وأفضل مثال على ذلك الجماعات الأفغانية الجهادية. وسنرى في أحيان كثيرة حدوث انقلاب جماعات الإسلام السياسي على من قام بدعمهم، ونشوب الحروب بينهما، وهو ما حدا ببريطانيا والولايات المتحدة إلى بذل المزيد من الحرص في تعاملهما مع تلك الجماعات. لكن ذلك لم يمنعهما من مواصلة استغلال الجماعة رغم رفعها لشعارات معاداة الغرب. (البدايات) شهدت سنوات الحرب العالمية الثانية نموًّا متواصلاً لحركة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928 بقيادة حسن البنا، حيث أقامت فروعا لها في السودان، والأردن، وسوريا، وفلسطين، وشمال إفريقيا، ونادت بإقامة دولة إسلامية. وقد تلقى الإخوان في مصر دعمًا ماليًّا من القصر ومن الإنجليز لكسب تأييدهم ضد حزب الوفد والشيوعيين. ولعبوا دورًا هامًا في حرب 48 عندما جندوا قرابة 2000 مقاتل لمساندة عرب فلسطين في تصديهم لليهود، لكن ميل الإخوان للنازيين واشتراكهم في تلك الحرب، جعل بريطانيا تدرك أنهم كانوا «أعوانًا مؤقتين في ظروف محددة لتحقيق أهداف بعينها». ويذكر المؤلف أن أحد أبرز منظري الحركة، وهو سيد قطب، ألهم كتابه «معالم الطريق» الذي كتبه في السجن، فيما بعد أيمن الظواهري، نائب أسامة بن لادن، في تبني الخط الذي التزمت به القاعدة (العنف والتطرف). وقد اعترف سيد قطب صراحة قبل إعدامه عام 66 أن أمريكا «كانت تصنع جماعات الإسلام السياسي». كما يتطرق المؤلف إلى محاولات الاغتيال السياسي التي قامت بها الجماعة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وإلى سعيد رمضان السكرتير الشخصي للبنا ومؤسس التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، واتصالاته مع أجهزة المخابرات الأجنبية. ويقول بهذا الصدد إنه ربما جندته وكالة المخابرات المركزية وإدارة المخابرات البريطانية في الخمسينيات. وتشير بعض المصادر إلى أن وكالة المخابرات المركزية حولت له عشرات الملايين من الدولارات في الستينيات. وتبين الوثائق التي رفعت عنها السرية في المحفوظات السويسرية سنة 1967 أن الحكومة البريطانية كانت تشمل بعين العطف آراء رمضان المعادية للشيوعية، وأنه كان، من بين أمور أخرى، عميلًا للمخابرات البريطانية والأمريكية. وقد أوردت صحيفة «لو تومب» في 2006 أن ملف رمضان شمل عدة وثائق تشير إلى صلاته «بإدارة سرية غربية بعينها». كما أوردت وثائق المخابرات الألمانية من الستينيات أن الولايات المتحدة ساعدت على إقناع الأردن بمنحه جواز سفر. (التواطؤ مع بريطانيا) تواطأت الحكومات البريطانية (العمال والمحافظون)، عقودًا طويلة مع جماعات التطرف الإسلامي، بما في ذلك التنظيمات الإرهابية، تارة بالتستر عليها والعمل بجانبها، وتارة باحتضانها وتدريبها بهدف الترويج لأهداف محددة للسياسة الخارجية البريطانية، خاصة بعد تراجع النفوذ البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية، الذي عانى من أوجه ضعف متزايدة في مناطق أساسية من العالم. ولم يقتصر تواطؤ بريطانيا مع جماعة الإخوان المسلمين فقد تواطأت أيضًا مع الجماعة الإسلامية التي تأسست في الهند عام 1941 وأصبحت قوة سياسية وأيدلوجية كبرى في باكستان. وكان البند الأول في الرابطة الإسلامية التي ساعد الإنجليز على إنشائها «تشجيع مشاعر الولاء للحكومة البريطانية بين المسلمين». وطبقا لمارك كورتيس فقد دعم الإنجليز استقلال مطالب الجماعة الإسلامية لاستقلال باكستان -بعد أن كانت ترفض تلك المطالب- لأنه يحقق لهم نتائج قيمة، بما في ذلك الحصول على تسهيلات عسكرية في البلد الجديد وضمان استقلال أفغانستان إلى جانب الأهمية الإستراتيجية لباكستان التي «ستحقق غالبية متطلبات بريطانيا الإستراتيجية». كما عملت بريطانيا سرًا مع حركة «دار الإسلام» في إندونيسيا «التي وفرت مرتكزات أيديولوجية مهمة لتطور الإرهاب في هذا البلد». ورغم أن بريطانيا تعاونت أساسًا مع الحركات السنية في الترويج لسياستها الخارجية، فإنها لم تنفر في بعض الأوقات من التستر على القوى الشيعية، مثل المتطرفين الشيعة الإيرانيين في خمسينيات القرن الماضي، وقبل الثورة الإيرانية عام 1979 وبعدها. وبعد الجهاد في أفغانستان، أجرت بريطانيا تعاملات سرية من نوع أو آخر مع متشددين في منظمات إرهابية مثل حركة الأنصار الباكستانية، والجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وجيش تحرير كوسوفا، التي ارتبطت جميعها مع القاعدة. وجرى الاضطلاع بعمليات سرية مع هذه القوى وغيرها في آسيا الوسطى، وشمال إفريقيا وشرقي أوروبا. ويذكر المؤلف أن سياسة بريطانيا الراهنة في الشرق الأوسط هي سياسة نفعية مثلما كانت في القرن الماضي فالاعتماد على إبرام الصفقات مع طالبان إلى جانب الاستخدام البرجماتي للإخوان المسلمين للحفاظ على ما تبقى من مصالح لبريطانيا في المنطقة هي سياسات تعود إلى القرن الماضي، ولا تزال قائمة رغم ما أثبتته القرائن من أن التعاون مع (المتأسلمين) يؤدّي إلى نتائج وخيمة. وكشفت صحيفة نيوستاتستمان في مطلع 2006 من خلال وثائق حكومية تعود على 2004 - 2006 أنه توجد في العالم الإسلامي قوى معارضة قوية يتعين على بريطانيا أن تعمل معها، خاصة الإخوان المسلمين. وتبين بعض الوثائق سبب رغبة بريطانيا في التعاون مع الإخوان، فقد أشار السفير البريطاني في مصر بلمبلي في مذكرته في يونيو 2005 إلى أن الحديث مع المتأسلمين يمكن أن يكون مفيدًا «حيث إننا قد نحصل على معلومات، وتلك سياسة تتسق مع الإستراتيجية البريطانية التي تقضي بتجنيد المتطرفين ليعملوا مرشدين». واللافت أن المؤلف الذي وضع كتابه قبيل ثورة الشعب المصري على مبارك في 25 يناير 2011، أورد كلامًا للسفير بلمبلي يتطابق مع الأحداث التي شهدتها مصر فيما بعد: «إن مصلحة بريطانيا في مصر تقضي بالضغط على نظام مبارك للنهوض بالإصلاح السياسي، وأن الطريق إلى التي تأخذنا إلى هناك قد تكون وعرة، وتنطوي بلا ريب على الإخوان المسلمين وعلى الضغط بدرجة أكبر على الشارع المصري. ويذهب السفير إلى أكثر من ذلك بالقول: «لكن إذا تم قمع الإخوان بشدة فإن الأمر سيقتضي منا ردًا. ويرى المؤلف أيضًا أن ما تفعله بريطانيا بالتعامل مع الإخوان في مصر يهدف أيضًا إلى تأمين نفسها في حالة تغير النظام في المستقبل وسيطرتهم على الحكم، وقيام نظام خارج عن نفوذ بريطانيا، يمثل بوضوح كارثة بالنسبة لمخططي هوايتهول (وزارة الخارجية البريطانية) لا سيما في ظل الحقيقة بأن بريطانيا أكبر مستثمر أجنبي في مصر بما يصل إلى نحو 20 مليار دولار. ويبدو الأمر مشابهًا في الحالة السورية، ذلك أن لندن، ومعها واشنطن تريان أن الاتصالات مع السوريين المعارضين -بينهم مجموعة من الإخوان- الذين ظلوا يتخذون لندن مقرًا لهم هو لاستخدامهم أداة للضغط على النظام، ودعم إمكانية تشكيلهم لنظام يخلف بشار الأسد تربطهما علاقات مع شخصيات رئيسة فيه. ويذكر المؤلف في موضع آخر من كتابه ان بريطانيا واصلت التواطؤ مباشرة مع المتأسلمين المتطرفين، أساسًا في ليبيا وكوسوفو، وبدرجة محدودة في العراق بعد أن ثبت للمخططين البريطانيين أن الإسلام المتزمت مفيد لبريطانيا في التصدي للنظم القومية: القذافي في ليبيا، وميلوسيفيتش في يوغسلافيا، وصدام في العراق (ومن قبلهم عبدالناصر في مصر)، وذلك بالرغم من التهديد الإرهابي الذي كانوا يشكلونه.وكانت لندن في التسعينيات إحدى مراكز العالم الكبرى بالنسبة للجماعات الإسلامية المتطرفة على غرار الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية، والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وجماعة الجهاد المصرية والقاعدة نفسها من خلال مكتبها «لجنة الشورى والإصلاح»، وكانت القاعدة تعتبر لندن المركز العصبي لعملياتها في أوروبا، وكان كثيرون يعملون هناك حيث تم جمع ملايين الجنيهات في بريطانيا لتجنيد العناصر الإرهابية في شتى أنحاء العالم من أفغانستان إلى اليمن. ومن مظاهر التواطؤ الأخرى مع الجماعات الإرهابية رفض الحكومة البريطانية تسليم الإرهابيين المتورطين في أعمال إرهابية بحجة تعرضهم للتعذيب في بلدانهم، وأوضح مثال على ذلك أبو حمزة المصري، مؤسس منظمة «أنصار الشريعة» عام 1994، فقد رفضت بريطانيا تسليمه لمصر عدة مرات بدءًا من العام 1995، بناءً على شكوك ليواجه تهمًا بالإرهاب لتورطه مع جماعة الجهاد الإسلامي المصرية والجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية. ويذكر المؤلف استنادًا إلى الوثائق أن المخابرات البريطانية الداخلية أجرت عدة لقاءات مع أبي حمزة المصري في أوائل عام 1997 عندما كان واعظًا في مسجد في ليوتن ليعمل مرشدًا عن المجاهدين الآخرين، وأن المخابرات الفرنسية أوعزت إلى المخابرات البريطانية الحصول منه على معلومات خاصة بالجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة، وأن أبا حمزة قام بعمليات تجنيد وجمع أموال من أجل هذه الجماعة، وأيضًا نشر رسالتها الإخبارية التي كان يحررها أبو قتادة القائد الروحي لتنظيم القاعدة في أوروبا .وتبين الوثائق السرية أن أبا حمزة شرع في تنظيم التدريب العسكري لعناصر من منظمة أنصار الشريعة التابعة له، في معتزلات ريفية في إنجلترا وويلز واسكتلندا، حيث كانوا يتعلمون على كيفية تفكيك الرشاشات إيه . كي - 47 والبنادق اليدوية، وذكر شين أونيل ودانيال ماكجروري في كتابهما عن أبي حمزة أن هذا التدريب كان يتم على يد جنود بريطانيين سابقين كان أبو حمزة قد جندهم بعد أن عرف أسمائهم من مجلة تعني بشؤون القتال، وأن أبا حمزة كانت تربطه علاقة ودية مع جهاز المخابرات الداخلية والفرع الخاص منذ أواخر التسعينيات، «إذ كانوا يتصلون به بانتظام، ويدعونه لاجتماعات، وكانوا بصفة عامة على علاقة ودية به». التواطؤ مع أمريكا تفوق الأمريكيون على البريطانيين فى التواطؤ مع الجماعة، فقد ساعدوا فى ذبح أعضاء حزب تودة الإيراني فى 1953، وفى إبادة الحزب الشيوعى الإندونيسي الذي كان يضم مليوني عضو على أيدى صديقهم سوهارتو، ومن معه من المتأسلمين، كذلك فعلوا فى العراق والأردن وفى أفغانستان، حيث كان لواشنطن اليد الطولى في دعم المجاهدين الإسلاميين في أفغانستان، الذين أصبحوا بعد الانسحاب السوفيتي عدوها الأول. وكان أبرز عملائهم هناك حكمتيار الذي يقول المؤلف انه كان «يسلخ جنود أعدائه اليساريين أحياء»، وساندوه بكل قوتهم رغم وصف الكونجرس له بأنه أكثر القادة الأفغان فسادًا. وبدأت أمريكا منذ أوائل الخمسينيات تمويل الإخوان في مصر, ومساعدتهم فى سوريا, والمعروف أن واشنطن كانت قد تعاونت مع الإخوان السوريين لزعزعة نظام حافظ الأسد الذي حكم سوريا منذ العام 1970 حتى وفاته عام 2000. ويمكن القول في المحصلة، واستنادًا إلى ما تضمنه الكتاب من معلومات موثقة بأن الولايات المتحدة وبريطانيا أسهمتا فى صعود الإسلام المتطرف، وتقويض القوى الليبرالية والوطنية، كما شجعت هذه السياسة الحروب والعنف وإذكاء التوترات بين الدول إلى جانب تشجيع الانقسامات الطائفية. المزيد من الصور :