وسائل العار والخراب د. محمد خيري آل مرشد لوسائل الإعلام وجه جميل ، يساهم في نشر المعرفة والثقافة وكثير من المواد المفيدة مجتمعيا ؛ إلا أن لبعضها وجها مظلما متمثلا في دورها بمحاولة السطو على ذاكرة المتابعين لتغيير محتواها ومضمونها بما يخدم أهداف سياساتها ، على عكس بعض وسائل التواصل الحديثة التي تمنح المستخدم قدرة على المشاركة المتفاعلة ؛ بل القدرة على إنتاج محتوى اتصالي جديد ولو أنه لا يزال في بعض الاحيان غير ذا قيمة فكرية حقيقية .. إلا أنه يوجد أيضا شريحة لا بأس بها تساهم في الإنتاج الفكري والثقافي ، ما يساعد كثيرا في كبح جماح التسلط الاعلامي التقليدي الاحادي الاتجاه.. نعم ، الخطير في الموضوع ما تعتمده وتتعمده بعض دور الإعلام من سياسات مدروسة وممنهجة مستهدفة شرائح مختلفة من المجتمع ، للعمل على تشكيل مواقف الناس واتجاهاتهم بل وسلوك المجتمعات ، بإغماض عيون الناس والطمس على قلوبهم وذلك بالتشويش على عقولهم وإغفال حقوقهم المشروعة ، لتوظيفها الإعلام في مصالح قلة قليلة من المتنفذين وأصحاب المصالح لتحافظ على مكتسباتهم ، وحيث أن الأمر لا يقف عند هذا الحد بل يتعداه ، لتوظف بشكل مباشر لخدمة أجندة عدائية بالضرورة تتناقض وتتعارض مع قيم ومصالح المجتمع ، وهو ما يشكل في الحقيقة اعتداء واضح على حقوق الأفراد والمجتمعات بل إنه يشكل صورة عنف تسلطي مباشر يحق ويجب مقاضاته.. لم تأخذ بعض دور الإعلام ووسائلها دورها المرجو منها في تثبيت القيم المجتمعية الإيجابية الجميلة والأصيلة وشرح مساوئ ما عكس ذلك ، لتساعد في رفع المستوى الثقافي للأفراد والمجتمعات وتعزيز الخبرات بشكل ايجابي ، بل إنها كل يوم تنعطف أكثر إلى اتجاهات أكثر توهانا وأكثر ظلامية ، لتسحب معها أجيال بكاملها إلى الظلام الفكري والأخلاقي والعقائدي ، وذلك بما تبثه من ثقافة الفساد والجهل ، والغريب أن دور التظليل هذه مدعومة علنا من متمكنين لتخدم مصالحهم الشخصية ، غير آبهين بما يمكن أن يلحق للأجيال من خراب فكري وأخلاقي قد يعصف بمجتمعات بأكملها إلى الضياع الاجتماعي والعلمي ؛ بل إنها لن توفر مسانديها يوما.. لقد استبدلت بعض دور الإعلام الدور المرجو منها على المستوى التعليمي والثقافي ، لتقوم بالعمل على اغتيال الثقافة والمثقفين ببطيء ، ونسف قيم المجتمعات وثوابتها والتعدي عليها ، وذلك بالعمل على اجتثاث أصول معرفية وقيميه تشكل الهوية الثقافية والحضارية للمجتمع باستبدالها بهوية معرفية وقيميه أخرى .. فلقد اتخذت العديد من دور الظلام هذه على عاتقها سياسة ممنهجة في بث الكذب المفضوح والتلفيق والجهل ، متعمدة غسيل مخ عبر إعلام موجه يستهدف تزييف الحقائق وتغيير الواقع ، بتوظيف أبواق مشبوهة وغير نظيفة.. والسؤال هنا لماذا يُغض النظر عما تقوم وسائل الإعلام هذه بهذا الدور النكر والقذر؟ وأين دور الرقابة المؤتمنة على متابعة كل ما يبث باتخاذ تدابير لازمة في وقاية المجتمعات من سموم الاعلام البغيض ؟ فهذه القنوات الاعلامية بإعلاميها الغير مهنيين ، وأبواقها الفاقدة لكل حياء تصرخ وتسرح وتمرح في الفضاء الاعلامي دون رقيب أو حسيب ، لدرجة يظن المتابع أن عملها التخريبي مبارك فيه من قبل دور الرقابة بينما تكمم أفواه الصادقين ، فمن المسئول عن دعارة هؤلاء علنا وعلى الملأ ؟! والعجيب هنا أن بعض المثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي من أصحاب المعرفة ، يتهافتون ضيوفا على تلك الأوكار المشبوهة وهكذا تستمد هي الحياة بدعمهم.. بالرغم مما تقوم به من خطف أفكارهم وتسطيحها في معظم الأحيان لضيق الوقت الذي يحسب بالثواني وضرورة الرد السريع بجملة والتي لا يمكن أن تقدم حلولا لمشاكل مجتمع استعصت قرونا ، وهو ما يتناقض والتفكير المتزن الذي يحتاج لوقت كاف لطرح الأفكار ومعالجة المشاكل المطروحة ، وهذا ما يخدم سياسة التضليل الفكري ويشوه المادة المطروحة .. فالتفكير المتزن غالبا لا يجد له مكانا هناك لأنه يحتاج لوقت كافي لإيضاح الأفكار ، ونزع أي التباس محتمل وطرح الحلول الناضجة للمشاكل أو على الأقل رسم خطوط عريضة لها ، وكان الواجب مقاطعتها وتركها تعوي بمفردها أو لفئاتها ، وهكذا نستطيع أن نقول أنه لا يزال نور العلم والمعرفة والفكر خافتا جدا في معظم وسائل الإعلام وخاصة التلفزيونية منها ، بينما تسطع فيها شموس الجنس والإجرام بلا حدود.. نعلم أن العمل الإعلامي عمل تسويقي هدفه الوصول إلى مكاسب مادية في الغالب لا أكثر ؛ ولكن هناك دور إعلام هدفها الأول تخريبي ، وذلك ببث الجهل والفساد باعتمادها أسلوب التضليل والخداع والكذب ، وهو ما يتعارض مع أي نهج علمي موضوعي يهدف لنشر المعرفة والعلم والحث على الأخلاق الحميدة ، التي تساهم في رفعة ورقي الانسان .. فالقائمون عليها بالتأكيد مزيفون أيضا ، وأفكارهم في الحقيقة غير ذات قيمة علمية أو اجتماعية .. وإن فهمنا أنه في أي مهنة وأي مجتمع يوجد من لا يلتزمون بأخلاق المهنة وإن هناك سواقط وحثالات مجتمعية ، إلا أنه عادة يعمل هؤلاء كالخفافيش في الظلام ويتم اختفاءهم فور تسليط الضوء عليهم ومحاسبتهم ، ومن هنا لا نستطيع فهم أو تفهم تقاعس من أوكلت إليهم أمانة حماية المجتمع من أي خطر ولا أقلها خطر الإعلام المخرب الذي قد يتقن فن الخطابة والكلام ؛ لكنه يوظف كل القدرات للهدم .. وإن بقي الإعلام على حالته هذه ولم يطور نفسه ليكون أكثر تفاعلية وانسجاما مع متطلبات الفكر السليم والحاجات الطبيعية للناس وفي خدمتها ، فإنه سوف يفقد نفسه بالضرورة فسينحسر رويدا ، وسيكون من التاريخ حتما بالرغم من قوة نفوذه اليوم ، وهذه البوادر بدأت تظهر بعد أن بدأت برامج التواصل الاجتماعي التفاعلي ولو بشكل نسبي ، تأخذ الحظو الأكبر من المتابعين والمتفاعلين ليبدأ سحب البساط من تحت أقدام متسلطي الإعلام الموجه ، ولا نقول أنه سيلغيه تماما قريبا ، إلا انه سيكون حتما الأقل متابعة وبنسب عالية جدا ، وسيزداد الأمر سوءا كلما زاد تقدم التكنولوجيا وإذا ما طور المبدعون وسائل تواصلية جماعية بديلة أكثر تفاعلية ، لما يتميز به هذا النوع من الإعلام بقلة التكلفة أو حتى انعدامها ، والأهم أنه يضمن عنصر التفاعلية والحرية الفكرية وهذا ليس بالمستحيل أن نراه في الطريق.. الاستفادة الإيجابية من وسائل التواصل وجعلها تخدم مصالح الناس بالتعرف على مشاكلهم والبحث عن حلول لها ، وليس خلق مشاكل وأزمات إضافية لهم ذلك ماتقوم به دور الخراب والظلام وهو ما سيبعد المتابعين عن تلك المصادر ، وبما أن العالم أصبح يعيش ويتواصل في قرية صغيرة ، فإن أي محاولة تبليده وتسييره عفى عليها الزمن قد تفضي إلى عكس المبتغى ، في زمن أصبح فيه الانسان أكثر استقلالية بتقنياته ووسائل تعبيره ومصادر معلوماته ، وستجد دور الظلام نفسها حينها خالية إلا من خفافيشها التي تهاب وتخشي أي بقعة ضوء.. جميل احترامي