في ما مضى، وفي عنفوان الشباب الأول، كنت أكابر أمام عديد من الحقائق الأزلية وخلاصات التجارب عن حال الأديب بعامة والشاعر بخاصة، وأرفضها ولا أؤمن بها جملة وتفصيلا، بحجةٍ وفلسفةٍ مفادها أن الأديب مثل سائر البشر؛ فلكل أديب سياقه وظروفه وشروط حياته وتبعاً لذلك فلا بد من أن يختلف كل أديب عن رصفائه وزملائه الآخرين. من تلك الخلاصات والحقائق مثلا: أن هناك كارثةً اسمها (حرفة الأدب) لا مناص من أن تدرك الأديب في مرحلة من مراحل حياته فلا تدع في إمكانه ولا في يده أي سبب من أسباب الحياة المحترمة والعيش الكريم، ومنها: أن الأدب والثقافة والاهتمام بهما لايوفر رزقا ولا يؤكل عيشا كما يقال!، ثم جاءت مرحلة حصرت فيها رفضي وكفري بمثل هذه الخلاصات بأنها من الأقدار والحظوظ الخاصة بالأديب في العالم العربي؛ بدليل أن الأعم الأغلب من أدباء العالم الأول أمكنهم أن يعيشوا برفاءٍ وثراء من مجرد إصدار مجموعة شعرية أو رواية أو سيرة ذاتية أو كتاب عن الفن والحياة!، وبدأت أميل بانكسار إلى تلك الرثائيات التي تندب حظ الأديب وتبكي أحواله، وتعزيه بأن الله سيكفر ذنوبه بسبب ما يعاني منه وأنه -لذلك- سيكون من طيور الجنة!! الآن.. وفي هذه المرحلة، اضمحل رفضي وكفري تماما إزاء ما أرى وأعاني من تردي أحوال الأديب بعامة والشاعر بخاصة!، وسأعرض أمامكم أيها الأعزاء حالتين فقط من الأحوال التي تشيب لها نواصي الساحة الثقافية برمتها: الحالة الأولى: فاز الأستاذ الشاعر عيسى جرابا من فئة الشبان بجائزة سوق عكاظ، وفاز الشاعر الكبير الأستاذ عبدالله الصيخان من فئة الرواد بجائزة الشاعر الرائد العظيم محمد حسن عواد في نادي جدة الأدبي الثقافي، فما الذي حصل بعد ذلك؟ وما الذي ترتب على ذلك؟ الذي حدث بالضبط، والذي حصل بالتحديد هو أن جملةً من الصحف المحلية كتبت أخباراً بائسة وتقريرات بدائية تماما مثلما تقدم تغطية باردة عن حادث أو جريمة في شارع خلفي! واستحوذت كلمات وخطب رعاة المناسبتين على ثلثي تلك الأخبار والتقريرات!، ثم مرت مناسبة فوز كل من الشاعرين كما يمر الضوء الخافت في ليل المدينة، وأطبق الصمت القاتل وكأن شيئا لم يكن.. وعاد بعدها الشاعر جرابا إلى مجالدة تعليم الصبيان في مدرسته دون أي ميِّزة، وعاد الشاعر الرائد الصيخان إلى عزلته وكأنه لم يحصل على أي شيء!! أنا على يقين من أن الشاعرين بعد مرور أيام قليلة قد عاد إليهما الشعور بالفقدان والإحباط وانعدام الجدوى وارتسم أمام كل منهما هذا السؤال الشاحب (ثم.. ماذا)!. الذي أعرفه عالميا -وربما عربيا- أن الفنان والأديب والشاعر عندما يفوز بأدنى جائزة يحصل على الميزات الآتية: - يدعى ويستضاف في مختلف البرامج الأدبية والثقافية في الإذاعة والتلفاز بشكل متواتر وقد يتاح له تقديم برامج ثقافية. - تتسابق الصحف والمجلات إلى منحه زاوية يسجل فيها حضوره الثقافي. - تتسابق دور النشر إلى نشر إنتاجه وتسويقه. - تنظم له الأندية والجمعيات الأمسيات التي تليق بتفوقه. فما الذي تحقق من ذلك لأي من الشاعرين؟ الحالة الأخرى: هي حالة اللقاء الشعري الخليجي الذي تم في الطائف بتنظيم النادي الأدبي هناك: فإذا تجاوزنا سلبيات التنظيم، والتغطية التي لا تليق بحجم المناسبة، فلا مناص من الحزن والأسى إزاء تجاهل كثير من أدباء الداخل وحرمانهم من الدعوة والحضور، وأنا هنا لا أعني تحديدا الدعوة إلى المشاركة في برنامج اللقاء، ولا أعني الاستضافة في الفنادق والنزل، وإنما أعني -على الأقل- أن تصل إشارة ودعوة تقدير عبر الهاتف، بدلا من أن يقرأ الأديب خبر إقامة الملتقى في اليوم الثاني أو الثالث وكأن لا علاقة له بمثل هذه اللقاءات والمناسبات الأدبية. فعلا.. حال الأدب والأدباء بائسة.. يا ناس.