في حضور مخيف، في حضور يشبه رهبة الموت نفسه، وفي شوارع مدينة الجليل تحديدًا رفعت الكثير من الأيادي جثمان الشاعر سميح القاسم الذي يشبه المجاز في وداعته، رفعتها تلك الأيادي مرددةً ما قاله يومًا : "يقولون موتُكَ كان غريبا ووجه الغَرابَةِ أنّكَ عِشْتَ وأنّي أعيشُ.. وأنّا نَعيشُ وتَعلَمُ أنّا حُكِمْنا بموتٍ سريعٍ يمُرُّ ببُطءٍ وتَعلَمُ أنّا اجترَحْنا الحياةَ على خَطئٍّ مَطْبَعِيّْ أنحنُ مِن الناسِ؟ هل نحنُ حقاً مِن الناسِ؟ مَن نحنُ حقاً؟ ومَن نحنُ حَقاً؟ سألْنا لأوّلِ مَرَّهْ وَآخرِ مَرَّهْ!! يقولون موتُكَ كان غريبا ووجه الغَرابَةِ أنّي عِشْتَ ". وقت التشييع لم تتمالك زوجته (نوال) نفسها عندما حملوا نعشه، شَعرت بالشلل في ركبتيها وكأنها لم تعرف هذا الخبر السيئ جدًا إلا للتو؛ لتكتب اسم الرحيل الأخير فوق ضفائرها، وفي زوايا المنزل الذي عاشوا فيه، وعلى الستائر في نهاية الليل وهي وحيدة بعد أن تدير وجهها نحو البكاء، ودون أن يسمعها أحد، نوال وقت التشييع كانت تقول: " وداعًا يا كل الاسماء... وداعًا سميح... وداعًا طويًلا ولنلتق هناك، في القصائد التي ستقولها لي دون أن يعرفها أحد... دون أن يعرفها الآخرون... وداعًا يا من حملت مجازات الكون معك وأنهكتك... وداعًا للمرة الأولى... بل وداعًا ل آخر مرة".، كذلك الجميع هناك - صغارًا كبارًا نساءً رجالًا - مع آخر حبة رمل كانت توضع على قبره لوّحوا بأيديهم لوداع غصن الزيتون، ووجه كل المدن الغائبة، لوداع الكلام الذي لن يخرج من شفتيه بعد اليوم الذي كان يصنع لنا آمالًا جديدة، وشيئًا جميلًا يُسمى القصائد. وراء علم فلسطين سار الموكب وفي مقدمتهم سميح القاسم مغطىً بعلم فلسطين الحزين، وبكل دواوينه التي لم تكتب بعد لأن ثمة سببًا طارئاً حدث، سببًَا لا يمكن تأجيله اسمهُ "الموت" ومن خلف جثمانه مشايخ الدروز ورجال الدين المسيحي وأصدقاؤه الشعراء وأقرباؤه وقريباته وشخصيات سياسية والأحياء الذين تمنوا لو أن الموت أخذهم بدلًا منه، فوداعًا سميح وللمرة الأخيرة سنقولها لك!.