الدولة المسماة بالإسلامية في العراق والشام "داعش" استطاعت أن تفكك لنا كل طلاسم التنظيمات الإرهابية، وأسقطت وهما كبيرا لطالما ردده الكثير من الكتاب والإعلاميين، وروجته بعض منابرنا الدينية من أن الإرهابيين أناس جهلاء غير متعلمين، الدواعش استطاعوا باقتدار أن ينسفوا هذا الوهم ليؤكدوا لنا أن الإرهابيين ليسوا جهلة، ففيهم من يحمل أعلى الشهادات العلمية، وعندهم الخبراء والمنظرون، فضلا عن المهندسين والأطباء والمتخصصين في الحاسوب وغيره، وعندهم مشايخهم الذين يستشهدون بالنصوص الدينية في تبرير عدوانهم ويحاججون بها خصومهم. نحن اليوم مع نفس السيناريو الطالباني، ولكنه بحلة داعشية، ولن يكون حتما السيناريو الأخير في مسلسل إقامة خلافة تهيمن على كل مسلمي العالم، قاعدتهم الأصيلة التي ينطلقون منها هي: "من مات دون أن يبايع فقد مات موتة جاهلية"، والبيعة لا تكون إلا للخليفة، ولعل الحوارات والمناقشات والتنظيرات الصاخبة في أروقة بعض الجامعات الإسلامية وبعض كليات الشريعة عن شكل دولة الخلافة وشروط قيامها وطريقة إدارتها هو شاهد حي على ما نقول. هذه الجماعات الإرهابية بكل نسخها الكربونية تضع أهمية كبرى على التعليم العام، لما تمثله المرحلة من سهولة في السيطرة على العقول، وتشكيل الفكر، وتكوين كوادر تكون قادرة على تنفيذ ما يطلب منها دون سؤال. فكما خرجت "طالبان" و"الإخوان" من تحت عباءة آلاف المدارس الدينية ومراكز التحفيظ التي سيطرت عليها الجماعات المتطرفة، فإن "الكائنات الداعشية" أيضا خرجت من العباءة ذاتها، وهي مازالت تتوالد بكثرة! ووزارات التعليم وهيئاته الواسعة المختلفة ملزمة اليوم بإعادة النظر في المناهج الدينية وأهمية مراجعتها وتنقيتها من الشوائب التي تتعارض مع قيم حقوق الإنسان، التي حث عليها ديننا الإسلامي، ومن هذه الشوائب الغلو الديني، الذي يتمثل في تحريف المفاهيم، وإفراغ الأحكام الشرعية من مضامينها، والابتعاد عن مقاصد الدين وأهدافه. ومن الشوائب أيضا كراهية المختلف في الدين والمذهب ومراجعة مفهوم الجهاد، والنظر إليه بطريقة متجددة، وأنه الجهاد ضد التخلف والجهل، ولا يكون الجهاد الحربي إلا إذا حصل عدوان على الدولة والشعب. ولهذا أظن أن غرس فكرة التعددية المعتقدية في المواطن أمر مهم جدا؛ لأن الاعتقادات الأحادية المطلقة هي المسؤول الأساس عن إيجاد مناخ التطرف والعنف المجتمعي، وكذلك أهمية تدريس المعارف والفنون المختلفة في المراحل الدراسية كافة، مثل تاريخ الأديان والمذاهب المقارنة، فهذه الطريقة جديرة بخلق شخصية نقدية مستقلة، لا تنجر لأي تبشير من هنا وهناك، والأهم من كل ذلك أهمية إدراج مناهج التربية على المواطنة وحقوق الإنسان وغرس فكرة الانتماء إلى الدولة الوطنية في قناعات النشء، باعتبار أن الدولة هي الوحيدة القادرة على تحقيق الأمن العام. واعتبار أن السلوك المدني ينطلق من القوانين السارية على الجميع بلا تمييز في اللون أو العرق أو المنطقة أو المعتقد. أخيرا أقول: الكائنات الداعشية لم تأت من كوكب زحل أو المشتري، ولا هي بخريجة مدارس الغرب الكافر كما يصفها شيوخهم، ولكنها أتت من التعبئة الفكرية والدموية لبعض مشايخ المسلمين ووعاظهم ومخيماتهم الصيفية. باختصار: البيت الداعشي فسر لنا بكل وضوح عن مخطط المبنى الإرهابي والمقاول والعمال الإرهابيين الذين تعاونوا على بنائه وتشييده، فماذا نحن فاعلون؟