لا أكاد أفتح أي برنامج من برامج التواصل الاجتماعي إلا وأجد صور "السيلفي" بغزارة، ويلتقط البعض أكثر من صورة "سيلفي" في اليوم، يفعلها برفقة وجباته الغذائية وفي سيارته ومكتبه ومع أصدقائه، بمناسبة أو دون مناسبة، وتحت كل صورة يسرد حكايتها وموقعها؛ وكأنه يصرخ بأعلى صوته أنا هنا انتبهوا لي.. تجده يبحث عن الاهتمام وكلما بارك له أصدقاؤه صورة "سيلفي" التقطها وعلقوا عليها وتفاعلوا معها تجده في اليوم التالي يترقبهم مع الصباح الباكر بصور جديدة، فيصبحهم بصورة "سيلفي" لوجهه بمجرد أن يستيقظ من النوم، ويخبرك بأنه للتو استيقظ، وبعدها بقليل يباغتك بصورة "سيلفي" مع فنجان قهوته ويتفاخر بأن قهوة الصباح التي يعدها مقهاه الفاخر لا مثيل لها، وبدلاً من أن يستمتع بارتشافها تجده ينتظر أن يرى أكبر عدد من "اللايكات" وأجمل التعليقات التي تروي ذاته المتعطشة للاهتمام، وتشبع نرجسيته وتعزز إيماننا باضطرابه العقلي. بسبب نرجسيتهم أصبحت المواقع الاجتماعية أشبه بتجمع لأصحاب "الأوجه" الكبيرة التي تصبح أكبر مما هي عليه في الواقع لقرب كاميرات هواتفهم الذكية من وجُوههم، فيلتقطون صور "سيلفي" لوجهوههم حتى تستطيع من شدة استحواذ رؤوسهم على أكبر مساحة من الصورة أن تنصحهم بتغيير الحلاق الذي يرتادونه أو بقص شعر آذانهم، أو تنبههم على ضرورة التقيد بتعليمات أطباء الأسنان. وصف مهووسو "السيلفي" بالمضطربون عقلياً في عنوان هذا المقال ليس تهمة بل دراسة أكدتها وباركتها الرابطة الأميركية للطب النفسي APA بأن أخذ الصورة الذاتية أي "السيلفي" هو فعلاً اضطراب عقلي وذلك خلال المجلس السنوي لاجتماع كبار المديرين في شيكاجو، وأشاروا في اجتماعهم إلى أن هذا الاضطراب الجديد يسمى علمياً "سيلفيتيس" selfitis ويعرف بأنه الرغبة في التقاط الصور الذاتية ونشرها على وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة للتعويض عن عدم وجود ثقة بالنفس أو لسد فجوة في العلاقة العاطفية، وقسموه إلى ثلاث مستويات من الاضطراب العقلي. المستوى الأول: وهو الاضطراب العقلي الخفيف ومصاب به من يلتقط صور "سيلفي" بما لا يقل عن 3 مرات في اليوم، ولكن لا يتم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذه أعتقد أنني أعاني منها، فأنا شخصيا أحب أن ألتقط صورا لنفسي في الأماكن الأثرية والمتاحف لتوثيق الحدث كذكريات شخصية ولتوفير العناء على المارة أو المرافقين لي بأن أطلب منهم تصويري مع كل معلم أو أثر يدهشني أو يهمني توثيق وجودي بجواره، وأعترض أن يصنف هذا النوع من الأساس من ضمن مستويات الاضطراب العقلي، فلا أرى أن هناك حرجا من أن ألتقط صور "سيلفي" للذكريات الشخصية مع الأشياء والشخصيات الهامة بشرط ألا أزعج بها أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حالة رغبتي أن أنقل لهم الصور الهامة فإنه ليس لهم ذنب أن أريهم رأسي الكبير بل من الأفضل أن أنقل لهم صورة عادية بعيداً عن "السيلفي" المزعج للعين الطبيعية. أما المستوى الثاني فهو الاضطراب العقلي الحاد ويطلق على من يلتقطون صورا ذاتية لأنفسهم بما لا يقل عن 3 مرات في اليوم ويحرصون على نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، وهؤلاء هم الأغلبية الذين جعلونا نعاني من وجودهم معنا في مواقع التواصل، ولأننا في مجتمع تلتزم فيه المرأة بالحجاب فإنه يقتصر على الذكور وإلا لتضاعف العدد إلى الضعف أو أكثر إثر هوس الفتيات أيضاً بصور "السيلفي" وينافسن الشباب في ذلك، ولكن داخل نطاقهن الخاص، وإن تجرأن بالنشر فإنه لا يتجاوز إبراز بعض أصابع اليدين أو القدمين بعد أن تمضي وقت طويل في العناية بهما وتجميلهما بالمناكير في محاولة لحصد أكبر قدر من "اللايكات" التي من خلالها تسد به النقص الذي تشعر به أو العاطفة التي تفتقدها، وهؤلاء يستحقون تصنيف الاضطراب العقلي الحاد، ويجب عليهم البحث عن علاج فوري أو بديل يحمينا من الضوضاء البصرية التي تحدثها صورهم في كل موقع من مواقع التواصل الاجتماعي. أما الذين لا يمكنهم السيطرة على رغبتهم في التقاط الصور الذاتية على مدار الساعة ونشرها على وسائل التواصل لأكثر من 6 مرات في اليوم فإنهم يصنفون تحت مستوى الاضطراب العقلي المزمن، ورغم قلتهم إلا أنهم الأشد ضرراً ويشعرون بنرجسية مستفزة ومؤذية لكل الذين يضطرون لمجاملتهم وعدم حذفهم أو حظرهم ويفضلون الصبر على أذى صورهم "السيلفية" التي يحرصون على نشرها في كل لحظة ونتجاهلها بقدر الإمكان لعل وعسى أن يبهت هذا الهوس وتصبح عادة شبه منقرضة، أو أن تصبح "موضة" قديمة يتحاشى أن يعير بها من يفعلها فيبحث عن شيء آخر يرضي به جوعه العاطفي ونرجسيته الطاغية ويمارس من خلالها اضطرابه العقلي المزمن؛ والذي أسأل الله ألا يكون على شاكلة "سيلفي" وأن يكون شيئا لا يتسبب في التلوث البصري الذي نعاني منه الآن. أتقبل جداً أن أرى "سيلفي" لرائد الفضاء "اكهيكو" الذي فعلها في الفضاء توثيقا لرحلته التاريخية، ولا مانع لدي أن أرى صورة "سيلفي" من أجل الأعمال الخيرية كصورة "السيلفي" الشهيرة التي التقطتها "ألين دي جينيريس" في حفل توزيع الأوسكار السادس والثمانين مع أشهر نجوم هوليوود، ولكن أن أضطر لأن أرى كل يوم صور "سيلفي" مع كل شيء وفي كل مكان وأي زمان فإن هذا مدعاة للجنون والاعتراض، ومن حقنا أن نعود بمواقعنا الاجتماعية إلى حالتها الأولى قبل أن يغزوها هؤلاء المضطربون عقلياً.