عانى الكثير من الناس في وقت مضى من الأمراض التي نغصت عليهم حياتهم، ومن خلال التجربة والخبرة والدراية تمكنوا من إيجاد عدد من الأدوية لكثير منها، لكن هناك ما لا يسمى مرضاً لكنه ألم إذا ما اعترى أحد من الناس ظل يشكو من وجعه الليل والنهار، ولا يجد سبيلاً لذهابه إلاّ بطريقة واحدة هي التخلص من ذلك الجزء من الجسد، ألا وهو السن، فعندما يعتريه "التسوس" فيما مضى قبل أن يتطور علاج الأسنان كما في زماننا هذا، فإن السبيل الوحيد إلى العلاج هو خلعه والتخلي عنه إلى الأبد في سبيل راحة الإنسان، ومن أجل ذلك ضرب به المثل في المعاناة فقالوا عن ذلك: "لا همّ إلاّ هم العرس، ولا وجع إلاّ وجع الضرس"، فكم من ليلة بات فيها من يؤلمه سنه يتململ ينتظر بفارغ الصبر حلول وقت الصبح كي يذهب إلى من يجيد خلع السن بالطرق البدائية كي يستريح، وتكون المعاناة كبيرة إذا كان هذا السن من الأضراس لرجل كبير في العمر، حيث يكون هناك صعوبة بالغة في الخلع نظراً لكبر جذر هذا الضرس ك"أسنان العقل"، مما يستلزم الدقة في الخلع لمن يزاول هذه المهنة الصعبة، والصبر كذلك من صاحب الضرس. أول عيادة افتتحت في جدة عام 1343ه بمسمى «عيادة أبو السنون» وأسسها د.عباس شرقاوي ويكفي أن ترى الأداة التي يتم بها الخلع كي يرتجف قلبك من هول الصدمة في انتظار الألم الذي سيصاحب هذه العملية التي تجرى بدون مخدر، وهذه الأداة تسمى "الكلاب"، فعندما يأتي المريض يمسك المعالج هذا الأداة ومن ثم يُدخالها في فم من يؤلمه سنه، ومن ثم يمسك بالسن المصاب ثم يحركه بقوة يمنة ويسرة مع محاولة سحبه بالقوة، ولا تسأل عن حال المريض الذي يتلوى من شدة ألم الخلع، وبعد محاولات عديدة يفلح المعالج في خلع السن، وربما يقع على قفاه من شدة السحب، ليفور الدم في الفم، حيث يُسرع المعالج بحشو مكان السن بالملح في محاولة في وقف النزيف، وبعد كل هذا الألم تجد من خُلع سنه يدفع بسخاء لمن عمل بهذه المهمة وأراحه من هذا الألم، ولا ينجو من خلع سنه من التهكم والسخرية من الآخرين اذ قد يطلقون عليه وصفاً يلازمه طيلة حياته، خاصةً إذا كان من الأسنان الأمامية الثنايا، حيث يطلقون عليه لقب "الأثرم" كما قد يطلقون على من سقطت معظم أسنانه ولم يتبق إلاّ سن ظاهر عند حديثه ب"أبو سن"!. علاجات بدائية من خلال التجربة والخبرة والدراية برز العديد من الأطباء الشعبيين قديماً في معالجة العديد من الأمراض ومنها آلام الأسنان، فمن الأدوية الشعبية التي كانت تستخدم في تخفيف ألم الأسنان استعمال "زيت القرنفل" كمُطهر ومُخدر موضعي لألم الأسنان، والذي تميز بأنه آمن وفعال للاستعمال المؤقت على الأسنان المؤلمة، ومن العلاجات أيضاً مضغ "الزعتر" أو طبخه مع "الكمون"، بحيث يوضع على مكان الألم، ويفيد أيضاً ب"المضمضة" ويفيد اللثة كذلك، ويعتبر "الثوم" من العلاجات الناجعة في تخفيف ألم الأسنان وذلك بطبخه أو شوية، بحيث يوضع منه على الألم، أو باستخدام طريقة المضمضة بالماء وغيرها من تلك الاجتهادات التي ربما تخطي وربما تصيب. وعندما تعتري الإنسان آلام الأسنان فإنه يعاني كثيراً من ذلك، خاصةً في وقت الليل حيث ينام غيره قرير العين وهو يتلوى من الألم في فراشه، يرقب بزوغ الفجر ببالغ الصبر من أجل يجد حلاً جذرياً لهذا الألم لمن لديه الحل السريع، وهناك من صوّر هذه المعاناة وأجاد فيها، فها هو أحدهم يقول معبراً عن تلك المعاناة: قام ضرسي يتشكا وأنا منه اشتكيت كن بينه وبين البرد حفل اجتماع ماني فاضي لهمه لا نويت المبيت لا تزودها تراني قاصدك باقتلاع يا ما داويت فيك ويا ما وسطك حشيت وكلنا لزرق الدراهم للمشافي سراع فك الحنك وهذه قصيدة تتحدث عن حال مريض زار طبيب الأسنان للعلاج، وكان الطبيب لا يتكلم إلاّ باللغة الإنجليزية، قالها الشاعر: "عبدالرحمن بن عبدالرزاق بن أحمد الدويش" من أهالي محافظة الزلفي في جرّاح الأسنان الدكتور "قوش" وهي: عند قوش وفرقةٍ له بنجوني واسلخو مني الحنك سلخ الضحيّة ومسكوا فك الحنك به يجرحوني والمقص بيدين جراح جريّه صابر تحت أمرهم ما يرحموني مغمض العينين مالي مقدريّه قلت يا دكتور بالهون انظروني وابعد السستر لا تمسك ايديّه وين عايض لو حضر يوم اطرحوني كود من يدينهم ينجد خويّه عادتك الجود يا زين الضعوني فزعة إلي خابرينك كميّه الدكاتر يا زميلي غربلوني ما بقى إلاّ بالقلم أكتب وصيّه قصدهم لي عن وجعهن يسعفوني والمرض ماعرف مجهول الهويّه شالوا الأسنان مني عذبوني كيف ذا يحصل وانا مالي خطيّه هرجهم بيكوز ويس ويرطنوني والحقوها بقود وذا يصعب عليّه إذا نطقت بلهجتي ما يفهموني والجواب أوكيه ولهجات خفيّه أسنان ذهبية وظهر أناس منذ نصف قرن تقريباً يدعون أنهم يستطيعون تركيب أسنان لمن سقطت أسنانه، بل والعمل على تركيب أسنان ذهبية لمن يرغب، أو تلبيسها بطبقة من الذهب الخالص، وهم يفدون من بعض دول الشام، وكانوا يجوبون البلدات والقرى ويعرضون خدماتهم رجالاً ونساءً لأهل المنازل، حيث وجدوا إقبالاً من أصحاب تلك القرى، حيث سرعان ما يستدعيهم صاحب المنزل أو امرأته ويطلبون منهم تركيب أسنان لهم بدلاً من التي فقدوها، فيباشرون عملهم على مدخل المنزل على الفور بأدوات بدائية تفتقر إلى التعقيم غالباً، حيث يستخدمونها لجميع من يجرون له إصلاحات في أسنانهم، وما هي إلاّ لحظات إلاّ وتنتهي مهمتهم، ويركبون لمن يرغب أسناناً ذهبية وهي موضة دارجة في ذلك الزمن، ويطلبون مبالغ كبيرة قياساً على ذلك الوقت، ويمكثون يوماً واحداً تقريباً يجوبون فيه الشوارع والأزقة ومن ثم يغادرون مسرعين، وبعد مغادرتهم تنكشف ألاعيبهم ويظهر خداعهم فتتهاوى تلك الأسنان الجديدة وتسقط مع أول تجربة، فيغضب أصحاب هذه الأسنان فيفتشون عنهم فلا يجدون لهم أثراً. وقد صوّر الشاعر "ضويحي بن حمود الضويحي" ذلك المشهد في قصيدة فكاهية تحكي تلك الواقعة في بلدة "مرات" التي يمر بها هؤلاء المخادعون مثلها مثل بلدان المملكة، فيقول: ركب النوري على بعض الجماعة سن جبس حط من فوقه حديدي منهم اللي ما تهنا به ربع ساعة طاح حدره والحكايا ما تفيدي والعجايز ركبن سن الرباعة تحسب إن السن للحرمة يزيدي والعويد مركبين سنون قاعة وكل منهم قال هذا اللي نريدي البطن نملاه من عقب المجاعة ونقرض الأقطة على السن الجديدي أمراض اللثة وظن الكثيرون أن طب الأسنان حديث العهد، ولكن بعد الرجوع إلى الوثائق التي اكتشفت أخيراً فقد دلت على عكس ذلك، إذ إن البحوث أثبتت أن فن صناعة الأسنان مارسه القدماء، وأنهم سعوا إلى تبديل السن الطبيعية بسن اصطناعية إلى القرن الخامس قبل الميلاد، حيث وضع اليونانيون قانوناً حرموا بموجبه وجود الذهب في قبور الموتى، واستثنوا من ذلك خيوط الذهب التي تستعمل في ربط الأسنان بعضها ببعض والأسنان الذهبية. ولقد عرف العرب أيضاً شد الأسنان بالذهب، وكان "عثمان بن عفان" -رضي الله عنه- ممن شد أسنانه بخيوط ذهبية، وكذلك "أبو مسلم معاذ الهراء" و"عبدالملك بن مروان"، وقد وصف بعضهم أدوية ومساحيق لتقوية اللثة وتسكين آلام السن، وهم أول من استعمل زيت "القرنفل" في معالجة الأسنان، كما كتبوا في طب الأسنان رسائل وأبحاث عديدة. وعالج الأطباء العرب أمراض اللثة بالأودية والجراحة، فقد عولج استرخاؤها باستخدام الأدوية القابضة خوفاً من تعرض الأسنان للسقوط، كما كانوا يوصون المرضى باتباع توصيات تنطبق مع توصيات اليوم كاجتناب المأكولات والمشروبات شديدة الحرارة والبرودة والأطعمة الصلبة واللزجة، ونصحوا بوجوب مكافحة أمراض الأسنان بشتى الوسائل قبل التفكير بقلعها، وقد تنبه الأطباء والجراحون منهم بشكل خاص إلى أنواع الأورام التي تصيب الفم وكانت ملاحظاتهم الدقيقة لشكل الورم ولونه وسرعة نموه وغير ذلك من الأمور التي بنوا في ضوئها التمييز بين الأورام السرطانية وغيرها، وكانت تحذيراتهم تدعو إلى تجنب استئصال الأورام السرطانية أو التعرض لها لمعرفتهم بسرعة انتشارها بعد ذلك. الطبيب الرازي ومن أشهر الأطباء الذين برعوا في طب الأسنان "الرازي" الذي يُعد من أشهر أطباء العرب، والذي تعطينا تعليماته صوراً صادقة عن الطبيب الممارس الواعي البصير في حينه، فقد اهتم كثيراً بطب الأسنان، حيث خصص في الجزء الثالث من كتابه (الحاوي) مكاناً لأمراض الأسنان وما يتعلق بها من علاجات وتدابير جراحية، كما اهتم بأمراض تجويف الفم والأورام الحادثة فيه، بحيث يمكن القول إن الجزء الثالث قد احتوى على معلومات واسعة في أمراض الفم والأسنان وعلاجها بالأدمة أو بالأدوات المستخدمة في قلع الأسنان أو كيها بالنار، وكذلك معالجة الأورام الجراحية، فقد كان يوصي بعد اللجوء إلى القلع قبل استنفاذ جميع وسائل معالجة الأسنان، وينصح في بعض الحالات بتشطيب اللثة وتسكين الآلام ب"الأفيون" أو "عطر الورد"، وكان لا يرى مانع من إعلان العلق -نوع من الديدان يستعمل لامتصاص الدم وإزالة الاحتقان على الخد من ناحية الألم-، فإذا فشلت هذه الوسائل أسقط السن بكيه بالحديد المجمر، وكان يدرك سوء تأثير الحوامض في عناصر السن فيوصي بتحاشيها، إضافةً إلى أنه أوصى باستعمال القابضات لتمكين السن ومنع اهتزازه، لذلك كان ينصح بسعة الحفر والنخرات السنية بالمسك والشب بعد تنظيفها. أول عيادة ولم يكن الناس قديماً يعرفون مسمى عيادة الأسنان، بل لم يكونوا يعرفون علاجاً ناجعاً لألم الأسنان سوى بطريقة واحدة بدائية وهي الخلع والتخلص من السن والألم معاً، ولعل أول عيادة لعلاج الأسنان هي التي افتتحت في جدة عام 1343ه بمسمى "عيادة أبو السنون"، والتي أسسها "د.عباس شرقاوي"، والذي تعلم مهنة تركيب الأسنان في تركيا وحصل على تصريح رسمي من المديرية العامة للصحة آنذاك، والتي أمر بإنشائها الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، وهي تؤدي مهام وزارة الصحة التي لم تر النور إلاّ عام 1370ه، وتقع تلك العيادة في "حارة المظلوم"، ويتم فيها خلع الأسنان بآلة تسمى "الزرادية"، أمّا تركيب الأسنان وتنظيفها وصنع الجسور فهناك ماكينة كانت تستخدم لذلك تستخدم بطريقة أيضاً بدائية يتم تحريكها بالقدم ولها أطراف لتركيب الأسنان وبردها، وقد كان سعر الخلع والحشو (10) ريالات، أما التركيب فكان مقابل (15) ريالاً، وكان الأشخاص يأتون من جميع أطراف المدينة ومن القرى والمدن الأخرى لزيارة "عيادة أبو السنون" طلباً للعلاج، كما عرف الناس تركيب أسنان من الذهب أو أسنان مذهبة بسعر (20) ريالاً في هذه العيادة. تقويم وتبييض وتطور علم طب الأسنان كغيره من العلوم، وصار الاهتمام بالأسنان وعلاجها ميسراً وسهلاً سواءً في المستشفيات الحكومية أو المراكز الطبية الأهلية، ومع ظهور آلات جديدة وعصرية في معالجة أمراض الأسنان واللثة، فقد صارت آلام الأسنان المزمنة والطويلة من الماضي، حيث تستطيع من خلال زيارة واحدة إلى طبيب الأسنان القضاء على الألم والمعاناة، من خلال "أشعة بانورامية" تكشف أدق التفاصيل، وكذلك معرفة العديد من الحلول لعلاج السن سواء بحشوه أو تلبيسه أو استبداله بسن كالأسنان الطبيعية، كما أن الألم الذي كان يصاحب عملية حفر وحشو الأسنان قد تلاشى، حيث صار من اليسير علاج الأسنان وحشوها دون ألم، مما جعل رهبة الذهاب إلى طبيب الأسنان تزول خاصةً من الأطفال، بل تعدى الأمر ذلك إلى الذهاب إلى طبيب الأسنان لا لعلة وإنما زيادة في الاعتناء كعملية تبييض الأسنان خاصة للعرسان الجدد وبعض المهتمين بصحة الأسنان، كما أن البعض الآخر همه في الذهاب إلى طبيب الأسنان من أجل الزينة، وذلك بطلب تقويم الأسنان وجعلها متراصة وجميلة لتبدو ابتسامة صاحبها جميلة كجمال روحه، وهو منتشر بين الشباب وصغار السن. ومن الزينة التي ظهرت أخيراً هي زرع حبة صغيرة من "الكريستال" في أحد الأسنان لذوي الدخل المتوسط، أما أصحاب الدخل المرتفع فهناك موضة جديدة وهي زرع حبة صغيرة من الألماس في أحد الأسنان الأمامية، ولا يتعدى حجمها "المليمتر ونصف" أو "المليمترين ونصف"، وتبلغ قيمتها آلاف الريالات، على الرغم من تحذير البعض من أخطارها على السن واللثة، ولعل أكبر المستفيدين من تطور طب الأسنان هم من كبار السن الذين وجدوا تعويضاً لما فقدوه من أسنان، حيث يتم تركيب أسنان كالطبيعية كطقم كامل، أو جسر للأسنان الأمامية سواءً سفلية أو علوية.