أقرأ باستمرار تقارير محبطة وبعضها مفبرك عن الفقر، ويصيبني القلق والذهول كلما عرفت أن أعداد هذه الشرائح الغالية من المجتمع في تزايد مضطرد. وفي المقابل، وفي ظل توفير الحكومة كافة سبل العيش الكريم وطرح الوظائف الكثيرة ودعم المهن الشريفة والأعمال الحرة المربحة، مع تعاضد القطاع الخاص وكافة أطياف المجتمع في هذا المعترك النبيل، أسأل نفسي: هل الفقر حقيقي أم لا؟ بنظرة فاحصة في أحوال بعض هذه الأسر (وأكرر بعضها)، يتبين للوهلة الأولى أن المسألة ليست فقراً بقدر ما هي سوء تدبير. ربما التعريف الموجز للفقر هو «سوء إدارة شؤون الحياة». فمهما ضخ الضمان الاجتماعي من مبالغ شهرية، ومهما حرصت الحكومة على رفع المعاناة، ومهما تنادى الخيّرون (وما أكثرهم في بلد الحرمين الشريفين)، يظل هذا العدد في تزايد مريع ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن سنّة الحياة وجود فقر حقيقي لبعض الشرائح من المجتمع نظراً لأسباب متعددة، إلا أن الأعداد يجب أن تكون واقعية وغير مبالغ فيها كي يحظى الأمر بالمصداقية والأمانة العلمية. وفي معرض حديثي هذا، سأتطرق إلى فئة من هذه الشرائح التي تستطيع كسر آفة الفقر بعد التوكل على الله بطرق كثيرة ومتعددة وبمساعدة الحكومة والمجتمع، إذ إن كل السبل متوفرة لتحقيق عيش مناسب وحياة مكتفية. ولكن (ولأسباب كثيرة) تستمر هذه الشرائح بالنزول إلى قاع الفقر المؤلم. ومع الأسف تتميز الشرائح المعنية بالصفات السلبية (الكسل والخمول، السلبية المطلقة، عدم تقبل النصح والإرشاد، سوء تدبير الحياة، عدم وضوح الأولويات). يجمع هذه النقاط ويتربع على عرشها رأس الثالوث البغيض «الجهل». فالجهل هو أساس المشكلة وأُس كل بلوى ويمثل سوسة تنخر في المجتمع المتماسك. فعند عرضنا الوظائف الشريفة والمهن الحرفية النبيلة لهذه الشرائح الغالية من المجتمع نُصاب بالإحباط التام لرفض هذه الأسر عروضنا. وعند الطلب من هذه الأسر أن تنتقل إلى أحياء أرقى على أن نتكفل بالإيجار والحياة اليومية، يتم كذلك الرفض القاطع خوفاً من انقطاع «الناقوط» عليهم من المجتمع عندما ينتقلون إلى أحياء جيدة ونظيفة وراقية. وربما نساهم (من حيث لا ندري) في تعزيز ثقافة الفقر وتسارع وتيرة الترهل في المجتمع من خلال أعمال تقليدية نقوم بها قاصدين وجه الله ولكن دون أن نبذل الوسع والطاقة في التحري والتقييم واستشارة أهل الرأي الحصيف. ومن أمثلة هذه التصرفات التي يجب الابتعاد عنها ما يلي: • إعطاء المال النقدي للمحتاجين. • مساعدة المتسولين في الشوارع (الذين أغلبهم بلا شك عبارة عن شبكات تتميز بالترتيب والتنسيق تستغل طيبة المجتمع). • ثقافة صرف الزكاة والصدقات بطريقة عشوائية دون بذل الجهد لإعطائها لمستحقيها المتعففين الحقيقيين الذين هم بحاجة فطرية. • تكدس توزيع المساعدات في موسم واحد وعدم تخطيطها لبقية العام، مما يولد (التخمة) لدى الفقراء في هذا الموسم. • الحرص على تنمية البطن والجسد على حساب الفكر والعلم. نحن في عالم أصبح من النادر العثور على المتعفف الحقيقي بسبب تغطية شرائح معينة على المشهد العام وعدم إتاحة الفرصة للمتبرعين لرؤية غيرهم من أهل العفاف والتقوى. وإذا كان أسهل جزء في الموضوع هو إعطاء المال، فلعلنا نبذل جهوداً إضافية بتدريب هؤلاء الأسر وتوعيتهم وانتشالهم بصورة مهنية واحترافية ومستدامة بإذن المولى جل شأنه حتى لا نساهم في استدامة الفقر من حيث لا نقصد. وتأتي مبادرة توأمة الأسر كخيار متميز بتلمس حاجات المجتمع، ولكن بأسلوب عصري وأنيق ويلبي الحاجة وليس بالضرورة عبر إعطاء المال وإنما عبر إعطاء «التدبير» طويل الأمد والمفعول. وكما قيل «لو كان الفقر رجلاً لقتلته»، يجب علينا التكاتف لمحاربة الأسباب المؤدية إليه بدلاً من صرف الجهود لملء الشاحنات بالمواد الغذائية والملابس نهاية كل شهر، التي لا تخدم القضية لا من قريب ولا من بعيد، وإنما تؤججها وتزيدها ترهلاً وضبابية. ولعل هذا الموضوع سيتفرع لمواضيع أخرى كثيرة وذات صلة، ومن باب النأي عن السلبية والرؤية القاتمة، ستتم مناولة مواضيع متعلقة بهذا الشأن وطرح حلول عملية وبسيطة وقابلة للتطبيق الفوري إن شاء الله. أدام الله عليكم لباس البر والتقوى.