أهم رفيق في السفر الصحافي أو الأدبي هو الذاكرة. لكن يحسن أن تسعفها دوما بدفتر صغير وقلم. للأسف إنني أهملت هذه القاعدة الذهبية كما أهملت بخفَّة ولا مسؤولية قواعد كثيرة أخرى. الكاتب لا يسافر لنفسه بل لتوقيعه. وفي أيامي كان المسافرون قلّة ولم تكن أوروبا قد أصبحت مشاعا عربيا. العام الماضي كنت إذا مررت في المساء على رصيف هارودس خُيِّل إليك أنك على الكورنيش في أبوظبي. في العيد، لكن في الستينات والسبعينات، كنت نادرا ما ترى رجلا يقرأ صحيفة عربية في مترو لندن. ولم يكن فيها سوى مطعم لبناني صغير على شارع كنزنغتون الرئيسي، يحضر من المأكولات ما تيسَّر وليس ما طاب. وكان صاحب المطعم يغيب عنه في أوقات سباق الخيل في النهار ومواعيد سباق الكلاب في المساء، أي في مواعيد الغداء والعشاء. ولذلك رفع على مدخل المحل يافطة تقول: «يا ضيفنا لو زرتنا». الباقي كذب. الحقيقة أنني عندما ذهبت إلى لندن أول مرة عام 1972 لم يكن فيها من المطاعم المتوسطية سوى واحد يوناني وآخر تركي. والصينيون طبعا كانوا قد سبقوا ومعهم طناجر الأرز وأسراب البط. وعدا ذلك كانت لندن مدينة ناعسة تغلق أبوابها يوم الأحد وتمضي يوم السبت في الريف. وكان إيجار الغرفة في الهيلتون 16 جنيها يتبعها حسم جيِّد. الآن هذه المدينة الحيوية تحيا 24 ساعة كاملة وفيها جميع مطاعم العالم وجميع شعوب الأرض. وتلك المناطق التي كانت تقفر بعد السادسة مساء في وسط المدينة صارت مناطق سكنية فخمة، وشرق لندن الذي كان عنوانا طبقيا حزينا صار مثل «الويست إند»، جزءا من الازدهار الذي بدأته مارغريت ثاتشر، بعدما نزعت بأظافرها وجه لندن الخامل والكئيب. سافرت إلى باريس 1961 وانتظرت 11 عاما لكي أفكر في السفر إلى لندن. باريس كانت حلما لبنانيا يبدأ مع الطفولة. لندن، بسبب اللغة والعلاقات القديمة، كانت وجهة أهل العراق والخليج. في لبنان (أيامنا) تنشأ وأنت تعرف كل شيء عن فرنسا. آدابها وفنونها وأفلامها وتبغها وثيابها وعطورها وأغانيها. تأخرنا في اكتشاف لندن، هذا الوطن الذي يعير نفسه للقادمين. لن أنسى للندن أنها أرسلت إليّ الجنسية البريطانية إلى المنزل من دون أن تطرح عليّ سؤالا حول تفكيري أو انتمائي أو ما هو السبب الحقيقي الذي يقف وراء حبي للباذنجان. أمضينا 24 سنة في لندن، لا طرحنا سؤالا على أحد ولا أحد قرع جرس الباب. هكذا كانت أيضا عام 1972، ولكنها كانت لا تزال تعاني من أعراض ما بعد الإمبراطورية. مذيعو التلفزيون يضعون ربطات نايلون، والمسارح بسيطة الإنتاج، وسيارات التاكسي هرمة تحمل ملامح وبطء الزمن الماضي. إلى اللقاء..