لم يكد حبر القرار - السابقة الذي أصدرته محكمة التحكيم الدوليّة في لاهاي يجف، حتى جاءت الضربة الثانية في أقل من أسبوع من المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان في ستراسبورغ. فبعد سنوات من المحاكمات بين الدولة الروسية ومجموعة «مينتاب» التي كانت تملك الجزء الأكبر من أسهم شركة «يوكوس، والتي تتهم روسيا بتصفية الأخيرة بطريقة غير شرعيّة، أصدرت محكمة التحكيم قراراً يوجب الدولة الروسية دفع 50 بليون دولار تعويضاً لـ «مينتاب». وتزامن القرار مع آخر اتخذته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قضى بتغريم روسيا 1.87 بليون يورو في قضية «يوكوس» أيضاً، والذي إن كان أخف وطأة على روسيا، إلا أنه يعتبر سابقة في تاريخ هذه المحكمة. بالنسبة إلى محكمة التحكيم الدولية في لاهاي، فإن روسيا تعاطت معها في شكل أقل ما يقال عنه إنه غير جدّي. ويعتبر «ميثاق الطاقة» الدولي لعام 1991 الذي وقعته 51 دولة من ضمنهم روسيا ولكنها لم تصدق عليه في الدوما، المرجع القانوني لمحكمة التحكيم، ما يعني تلقائياً عدم إلزامية تطبيق أي قرار مبني على الميثاق. ولكن ممثلي روسيا أمام المحكمة عند بدء جلسات الاستماع، وافقوا في شكل مستغرب على اعتبار الميثاق مرجعاً للمحكمة، وبالتالي على إلزامية القرار. وتبدو اليوم خطوة الموافقة هذه ساذجة وغير مدروسة، يضاف إليها أن روسيا اختارت للدفاع عن مصالحها، شركة محاماة أجنبيّة قد تكون غير مكترثة بمّا تعتبره سلطات الكرملين مصالح خاصة. وأخيراً، جاء القرار في ظل تأزم عميق في العلاقات بين روسيا والغرب وتزامن قرار المحكمة الواقعة في لاهاي (هولندا) مع كارثة إسقاط الطائرة الماليزية والتي شكّل الهولنديون العدد الأكبر من الضحايا فيها. وبالعودة إلى المحكمة، فقد جاء في القرار أن روسيا انتهكت المادة 13 من الميثاق والتي تحمي الاستثمارات الأجنبيّة في قطاع الطاقة من التأميم والمصادرة. وباختصار، فقد رأت المحكمة أن شركة «يوكوس» استخدمت فعلاً طرقاً ملتوية يغلب عليها الاحتلال لتقليص الضرائب، ولكن الدولة الروسية كذلك تفننت في معاقبة «يوكوس» كما لم تفعل مع غيرها من الشركات التي تهربت من الضرائب. ورأت المحكمة أن الدولة الروسيّة أرغمت «يوكوس» على الإفلاس وعلى مصادرة أصولها، على رغم أن الأخيرة كانت تملك ما يكفي من الأصول لتسديد الضرائب المترتبة عليها، وأنّ الصفحة الأكثر سوداوية في القضاء على «يوكوس» هي المهزلة التي ترافقت مع المناقصة لبيع أصول الشركة. إذ بيعت شركة «يوغانسك نفط» التابعة لـ«يوكوس» بسعر أقل من سعر السوق لشركة «بايكال فينانس غروب» غير المعروفة والتي تم تسجيلها قبل بضعة أيام برأس مال 10.000 روبل (300 دولار). لـكن هذه الشركة تمكنت بطريقة ما من توفير 1.77 بليون دولار من أجل المشاركة في المناقصة. بعد ثلاثة ايام على المناقصة وشراء «بايكال» لـ «يوغانسك»، بادرت شركة «روسنفط» العامة الى شراء «بايكال» بـ 10.000 روبل (300 دولار)، وفي هذه المرحلة، اختفت شركة «بايكال» واندثرت ولم يعلم حتّى الآن هوية مالكيها الحقيقيين أو الوهميين. أما في ما يخص الاستئناف، فإن محكمة التحكيم في لاهاي تعتبر هيئة قضائية عليا ولا يمكن استئناف قراراتها. وعند هذا الحدّ تبقى لدى روسيا فرصة وحيدة وهي استئناف القرار في المحاكم الهولندية الوطنية للمطالبة بإلغائه، ولكن فرص قبول الاستئناف هناك أقل من ضئيلة. ومن الناحية الأخرى، لدى روسيا حتّى 15 كانون الثاني (يناير) 2015 لتدفع المبلغ، على أن تبدأ بعدها الفائدة بالتراكم عليه. وفي ما يتعلق بتنفيذ القرار، المؤكد أن روسيا لن تدفع فلساً واحداً لأحد، أمّا اصحاب الحق فقد يطلبون من محاكم الدول الغربية تنفيذ القرار عبر الحجز على ممتلكات وحسابات الدولة الروسية. ولا يبدو أن لدى روسيا الكثير من المجال للمناورة. ويمكن أن تتمسك موسكو بمبدأ ان موافقتها على «ميثاق الطاقة» مرجعاً في التحكيم، كان نوعاً من التخلي عن الحصانة خلال مرحلة «البحث بالقضية»، ولكن ليس عن الحصانة عند تنفيذ القرار، وقد تهدد بحجز أملاك الدول التي تحجز الأصول الروسية. ولم يستفق الكرملين من صدمة القرار الأول حتّى جاءت الصفعة الثانية من ستراسبورغ، حيث حكمت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتغريم روسيا 1.87 بليون يورو بسبب انتهاكها حق الملكيّة التي تكفله شرعة حقوق الإنسان الأوروبية. وهذه الغرامة هي الأخرى قياسيّة في تاريخ المحكمة، وإن دلّت على شيء فهو ان الكرملين بالغ في الثقة بالنفس حين استخدم طرقاً فاضحة بالتخلص من شركة «يوكوس» ومالكها ميخائيل خودوركوفسكي. واليوم، بعد أكثر من عقد على النزاع بين الدولة الروسيّة وشركة «يوكوس»، فإن روسيا تجد نفسها مدينة لألد أعدائها. وبلغ الصراع بين روسيا والغرب أشده وشارف على بلوغ نقطة اللاعودة. وفي حين يقول المتشددون الروس أن ثمة مؤامرة غربية أميركيّة، فإن الصحيح كذلك أن السلطة الحالية فقدت كل صلة بالواقع وتبحر في عالمها المتخيل. والمؤسف أن الشعب الروسي اليوم هو تحت سيطرة الإعلام الرسمي الذي نجح في شده إلى الهاوية معه.